بقلم الأستاذ ثروت زيد الكيلاني*
تحلّ روحك في رماد الفجر، حيث لا شمس ولا غروب، فهنا، يتداخل الضوء مع الظلام في صراعٍ لا ينتهي، تترنّح الأنفاس بين أفقين ضائعين، لا يتراءى لهما فجرٌ ولا مساء. يتبخر الزمن في أفق ضبابي، وبينما تتلاشى الظلال قبل أن تولد، يتسلل السكون في كل شيء، في المكان والزمان، في الأحياء والخرائب. عالمٌ لا لون له، ولا يقين، كل شيء فيه مجرد نأمة، شبحٌ مرتجف، ارتعاشة بين الكينونة والعدم.
في تلك البقاع، حيث تجمّد الزمان في مكانه، همدت أصوات البراري، وانحنى خوار الأيائل خجلاً من صمت العدم الذي ابتلعهم. انطفأت رفرفة الأجنحة في كف الريح، تلك الرياح التي لا تملك سوى أن تحملهم. أما الأصوات الأخرى فما تزال حبيسة حلمٍ ملامحه غامضة، حلمٍ لم يكتمل إلا في أرواحنا، حتى يأتي النسيم خفيفاً، كمبشّرٍ غامض، يوقظ التيجان الخضراء من سباتها، فتغرد أمواج البحر وتبتسم الطيور في عليائها قبل أن يندلع صخب الإنسان الذي يملأ الدنيا بثقل صوته وضجيجه الذي لا ينتهي.
وفي غزة، حيث تتناثر الشظايا على الأرض، في قلب الدمار الذي يتحدث بلغة الخوف والحزن، تمزق الأنفاس تحت وطأة إبادة مجنونة، لا ترحم. هناك، بين الركام، تقف الروح الفلسطينية شامخة، رافضة أن تنكسر أو تُنسى. بينما في الضفة والقدس، تتنفس الأرض ضيقاً كل صباح، وتئن تحت عبء الحواجز، تلك البوابات التي كتبت عليها شعارات عنصرية تحاول أن تمحو تاريخنا ووجودنا على هذه الأرض. الأرض التي لم تكن يوماً غريبة عن أبنائها، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من أجسادهم، من حياتهم، من روحهم الممتدة عبر التاريخ. وفي فلسطين المحتلة عام 1948، يستمر الإجرام بلا توقف، ترتكبه عصابات القتل بتواطؤ مكشوف مع سلطة الاحتلال الغاشمة، تسلب الحياة، وتغتال الأمل، تحت أنظار عالم غافل لا يكترث.
نكبة فلسطين لم تكن نقطة نهاية، بل كانت بداية لحكاية مُرَّة. من خيام اللجوء، من مدارس الأونروا، من زوايا المخيمات الضيقة، كتب الأطفال قصصهم على جدران الزمان، وبذر الفلاحون بذور الحنين بين طيات المنافي، وظلت ذاكرة المكان، الحكايات التي لا تموت، تنساب بين الأجيال. كانت النكبة ميلاداً للمأساة التي لم تكتمل فصولها بعد، ولكنها أيضاً ميلاد للأمل الذي لا يموت، لحلم العودة الذي لا يختفي مهما تعددت الأيام. وتظل فلسطين، في كل زاوية من أرضها، تعيش في القصيدة، وتتردد في الروح، تظل في الذاكرة التي لا تهدأ، في الحلم الذي لا يتوقف عن الحلم.
ومع حلول الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، تظل الحقيقة تتجلى أمامنا بكل وضوح، وهي أن هذا الانقسام، الذي مزق الجسد الفلسطيني، ليس سوى تجلٍّ من تجليات اغتصاب غزة، وحرمانها من مكانتها الطبيعية ضمن المشروع الوطني الذي يضم فلسطين بكاملها، بكل شبر من أرضها وشعبها. لقد أصبح التوحد الوطني ضرورة ملحّة، ليس خياراً يمكن تأجيله، بل حاجة حتمية لاستعادة كرامتنا والحفاظ على وجودنا في هذا العالم الذي يسعى لتهميشنا وتقسيمنا. فالوضع الراهن ليس مجرد انقسام في الأرض، بل هو جرح عميق في القلب الفلسطيني، في الذاكرة المشتركة، وفي المصير الواحد. لا مناص لنا من أن تعود غزة إلى حضن الشرعية الفلسطينية، إلى سيادة وطنية واحدة، لأن فلسطين لا تُبنى إلا بوحدتها، ولا دولة فلسطينية بدون غزة، ولا دولة منفصلة في غزة.
كل لحظة تمضي في ظلال هذا الانقسام المفروض، ليست إلا خطوة أخرى تغور فيها فلسطين في غربتها عن ذاتها، كأنها تنفصل عن روحها شيئاً فشيئاً، فتغدو تائهة بين حاضر مبتور وماضٍ يستعصي على الترميم. ومع ذلك، لا خيار أمامنا سوى أن نواجه هذا التيه بإرادة تليق بتاريخنا، أن نعيد تشكيل ذواتنا كما يُعاد تشكيل الوطن في الذاكرة، أن نلملم شتاتنا المبعثر كما تُلملم الحكاية أطرافها في حضرة النسيان، حتى ينهض هذا الشعب كما ينهض طائر الفنيق من رماده، لا ينهض ليحيا فقط، بل ليحمل في نهوضه معنى الخلاص وتجدد المعنى.
إن وحدتنا ليست ترفاً نمارسه إذا طاب لنا المقام، ولا خياراً سياسيّاً يُختبر عند تقاطع المصالح، بل هي شرط وجودنا الأسمى، ومفتاح كرامتنا، والركيزة التي بها نعيد الإمساك بخيوط ما تبقى من حلم تمزق بين المنافي والمقابر، حيث تتراءى لنا في كل مرة أرواحنا المشتتة، فتطلب منا أن نجتمع من جديد، لنستعيد زمام المبادرة، ونستنهض الحلم المؤجل، ونحفظ كرامتنا من الانحدار في مهاوي التنازل. وعندما تتحقق، لا يعود الفلسطيني إلى وطنه كمن يعود إلى عنوان قديم، بل كمن يعود إلى لحمه ودمه، إلى الأرض التي حملته أمّاً ولم تغب عنه وإن غاب عنها، يعود كما يعود الأحياء إلى بيوتهم بعد ليل طويل، لا ليبدأوا من جديد، بل ليكملوا ما لم يُستكمل من رواية الحياة.
نفتح في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة كتاباً لم يُغلق بعد، كتاباً كتبته الأجيال على هوامش التهجير في مخيمات اللجوء، بين بقايا الأرض التي لا تُمحوها الأزمان. يخفي لاجئ مفتاحه كأنما يخزّن فيه عمر وطن، ويرسم طفل فلسطين على الرمال، لا كخريطة، بل كنبض، لا كمساحة، بل كمعنى، ويبقى حلم العودة مشرقاً في العيون، وتظل الأرض الأم حية في القلوب. ورغم ما مر من سنوات، ورغم العواصف التي خلفتها رياح الاحتلال، يظل الفلسطيني صامداً، لا يستسلم للوهم، بل متمسكاً بأملٍ متجدد لا يغيب، أملٍ في العودة، في التحرير، وفي المستقبل الذي لا يزال بين أيدينا.
لا نكتب عن النكبة كحدث مضى، بل نوقّع على استمرارها بأحبارٍ من صمت العالم وجراحنا المفتوحة، ومع ذلك لا تظل الصفحة الأخيرة بيضاء. يحمل الفلسطيني، الذي حُمّل شتاته على أكتاف الذاكرة، مفاتيحه ويزرعها في التراب، لا ليستعيد بيتاً من حجر، بل ليعيد هندسة الكرامة من أساسها. لا نُطارد ماضينا لنعود إليه، بل نُمسك به لننقذ المستقبل من النسيان. وبين ركام الانقسام ومرايا التغريب، نؤمن أن الوحدة ليست شعاراً، بل شرط النجاة. والعودة ليست وعداً، بل اختبارٌ لهويتنا الأعمق. نحن لا نحيا لأننا لم نُباد، بل لأننا لم نُسلّم، ولا نحيا لأننا باقون فحسب، بل لأننا نُصلّب الذاكرة في كل جيل، من فكرةٍ تصمد، ومن حبٍ لا يُقهر، ومن كرامةٍ لا تساوَم، نحن أحفاد من رفعوا الخيام فصارت وطناً مؤقتاً، ومن حملوا مفاتيح البيوت كما تُحمل الكتب المقدسة، نحن لا نغفو، لأننا نغرس المعنى في النبض الممتد من سلالة الوجدان، ونضيء به ما تبقّى من الطريق، ونروي به نهر الحق الذي لا ينضب، ونعودُ… كأنّا الدعاءُ الأخيرُ على شفاهِ الأنبياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ ثروت زيد الكيلاني – باحث وكاتب، مستشار للشؤون التعليمية والمناهج ووكيل سابق في وزارة التربية الفلسطينية
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً