بقلم الأستاذة نُسيبة شيتور*
في زمن تتكالب فيه التحديات وتتسارع فيه التحوّلات الجيوسياسية، لا يكفي أن تمتلك الدول جيوشًا مزوّدة بأحدث العتاد، بل الأهم أن تمتلك عقلًا استراتيجيًا يُخطط ويُكيّف ويبتكر، من هذا المنطلق، يمكن قراءة الرسائل العميقة التي حملها ترؤّس الفريق أول السعيد شنقريحة، الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، لأشغال الدورة الثامنة عشرة للمجلس التوجيهي للمدرسة العليا الحربية، بتاريخ 15 ماي 2025.
الحدث، وإن بدا في ظاهره روتينيًا ضمن رزنامة عسكرية دورية، إلا أنه في عمقه يعكس رؤية عسكرية – فكرية متقدمة، تسعى إلى ترسيخ مكانة المدرسة العليا الحربية كأكثر من مجرّد مؤسسة تكوينية، إنها –كما أوضح الخطاب– قلبٌ فكري نابض داخل المؤسسة العسكرية، ومختبرٌ لصناعة الفكر الاستراتيجي الوطني.
بين التحضير القتالي ومفهوم “الجندي المفكّر”
في كلمته، لم يُخفِ الفريق أول قلق القيادة العسكرية من الفجوة المحتملة بين امتلاك التكنولوجيا العسكرية وبين القدرة البشرية على تشغيلها بكفاءة، فالرهان الحقيقي، كما قال، لا يكمن فقط في “ترويض الأسلحة”، بل في ترويض الفكر ذاته على التكيف السريع، على المحاكاة، وعلى الاستجابة الذكية للمتغيرات الطارئة.
من هنا يتجلّى تحوّل نوعي في الخطاب العسكري” لم يعد الجندي مجرّد منفّذ، بل فاعل مفكّر، ومتدرب دائم، ومحلل ميداني متنقل”
التحضير القتالي إذًا لم يعد مجرد تمرينات على إطلاق النار أو تنفيذ خطط جاهزة، بل يتحوّل إلى مدرسة متنقلة للتفكير التكتيكي والقيادة الميدانية تحت الضغط، وبالتالي نقلة نوعية في التصور العملياتي للجيش الوطني الشعبي، فالحروب اليوم لا تُكسب فقط بالقوة، بل بالذكاء.
المدرسة العليا الحربية: من الفصول الدراسية إلى جبهات الاستشراف
حينما يؤكد الفريق أول السعيد شنقريحة أن القيادة تعوّل على المدرسة العليا الحربية في “بلورة مقاربات نظرية جديدة” و”تصورات عملية مبتكرة”، فإننا أمام تطور جوهري في وظيفة هذه المؤسسة، التي أصبحت أقرب إلى “عقل استراتيجي للدولة” يُفكر خارج الصندوق، ويُحاكي سيناريوهات المستقبل بدل انتظار وقوعها.
إنها إقرار صريح بأن المدرسة الحربية فضاء للتفكير الإبداعي العسكري، حيث يتم إنتاج معرفة عسكرية وطنية، مرتبطة بخصوصية الجغرافيا الجزائرية، وتعقيدات محيطها الإقليمي، وتحديات الأمن غير التقليدي.
ليس من قبيل المصادفة أن يُستهلَّ اللقاء بوقفة ترحُّم على الرئيس الراحل علي كافي، القائد والمجاهد الذي يجسّد الارتباط العضوي بين الذاكرة الثورية والبناء المؤسسي، فكما أن المدرسة تحمل اسمه، فإنها تستحضر روحه، روح الالتزام الوطني، واليقظة السيادية، والموقف الحازم حين تُمسّ المصالح العليا للوطن.
البُعد الجيوسياسي للخطاب
ما بين السطور، يحمل الخطاب رسائل واضحة للخارج” الجزائر تسعى للحفاظ على مكانتها كقوة إقليمية، وهي جاهزة للتصدي لأي خطر يهدد سيادتها أو استقرارها أو مصالحها الحيوية.
المتابع اليوم للمشهد العسكري العالمي يدرك أن العقيدة العسكرية لا تُبنى فقط على التسلح، بل على عمق التفكير، والاستشراف، والتخطيط الاستراتيجي، بما يواكب طبيعة التهديدات الجديدة وسرعة التحولات الجيوسياسية.
المدرسة العليا الحربية، في هذا السياق، ليست مجرد صرح، بل هي جزء من معركة “المعرفة الدفاعية” التي تخوضها الجزائر في عالم لا يعترف إلا بالأذكياء.
ختامًا ما يجري داخل المدرسة العليا الحربية اليوم، تحت إشراف ومتابعة القيادة العليا، ليس إلا ترجمة لرغبة الدولة الجزائرية في أن يكون جيشها قويًا بعقله كما بسلاحه، مرنًا في فكره كما في تحركاته، ومحصنًا بفكر استراتيجي يستبصر المستقبل قبل أن يصله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذة نسيبة شيتور – باحثة في الاتصال السياسي.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً