بقلم الأستاذ ثروت زيد الكيلاني*
في كل انقطاعٍ ظاهري عن المعرفة يكمن احتمالٌ لنشوء وعيٍ جديد، وفي كل فجوة تعليمية تستتر إمكانية إعادة التشكّل العقلي والوجداني للإنسان، إذ حيث يكون الفقد يكون التكوين، وليس الفاقد التعليمي مجرّد نقصٍ في ساعاتٍ دراسية، ولا هو اختلالٌ رقميّ يُقاس بكمّ المعارف الغائبة، بل هو انقطاع في سيرورة التكوين الإنساني، يتجلى في تآكل البنية المعرفية، وتراجع الحضور الذهني، واضطراب الإدراك النقدي، وانفصام العلاقة بين الذات والوجود من خلال العلم.
إن التحدي الذي نواجهه لا يكمن في سدّ فراغاتٍ تقنية عبر استدراك المحتوى المفقود، بل في إعادة هندسة العملية التعليمية بحيث تصبح تجربة تحوّل معرفي وأنتولوجي يعمل على تمثيل وتسمية الكيانات، والفئات، والخصائص، والعلاقات بين المفاهيم، تجربة تتجاوز استرجاع المعارف إلى إعادة بناء النسيج الذهني والعاطفي للمتعلم، بحيث يكون التعليم رحلة تكوينية تنحت العقل وترتقي بالوجدان، لا مجرد أداة لنقل المعلومات.
أولاً: إعادة تعريف الفاقد التعليمي: نحو رؤية فلسفية تربوية
إن النظر إلى الفاقد التعليمي بمنطق العجز والقصور يقودنا إلى معالجات سطحية، تستعجل التعويض دون فهم أعمق لطبيعة الفقد ذاته. غير أن الفاقد، إذا ما أُعيدت قراءته في ضوء فلسفة التربية النقدية، يمكن أن يُصبح نقطة انطلاقٍ نحو وعي تعليمي أكثر تحرّراً وانفتاحاً. فهو ليس مجرد غيابٍ قسري للمعرفة، بل حالةٌ تستدعي إعادة النتاج الفكري في سياقات جديدة، وإعادة ضبط العلاقة بين المتعلم، والمعرفة، والعالم.
في هذا السياق، جاء البرنامج التربوي لمعالجة الفاقد التعليمي في الضفة وغزة كمقاربة تتجاوز الحلول الترقيعية، متبنّيةً منهجيّة تربويّة متكاملة تقوم على التشخيص العميق، وإعادة بناء أسس التعلم، وتحرير العقل من نمطية الاستقبال السلبي إلى أفق التفكير المستقل والتأمّل النّقدي. يقوم البرنامج على مقاربة شموليّة تعيد صياغة أدوار المتعلّم والمعلم والمجتمع التعليمي ضمن ثلاث مراحل مركزية:
ثانياً: التعليم بوصفه سيرورة تكوينية: استراتيجيات التدخل العميق
ينطلق البرنامج من مبدأ أنّ التعليم فعلٌ تكويني لا مجرد عملية تلقينيه، حيث يتجاوز التدريس نقل المعرفة إلى إعادة تشكيل بنية الفهم والإدراك. لهذا، تمّ تصميم استراتيجيات التّدخل وفق نهج يُوازن بين التعليم النّشط، والتّعلم بالاكتشاف، والفلسفة النقدية في بناء المعرفة، بحيث يصبح التعلم رحلة تكوينية تنحت العقل وترتقي بالوجدان، لا مجرد أداة لنقل المعلومات.
1-المرحلة الأولى (الصفوف 2-3 الأساسي): ترسيخ الجذور الإدراكية والمعرفية
هذه المرحلة ليست مجرد استدراكٍ للمهارات الأساسية، بل هي إعادة تأسيس لنظام المعنى لدى الطفل، بحيث لا يتعلّم المهارات بطريقة آلية، بل يختبرها ضمن سياقاتٍ وجوديّة مرتبطة بعالمه الحسي والإدراكي.
آ-التّدخلات المعرفيّة والمهاريّة
-تعزيز مهارات القراءة والكتابة والحساب باستخدام التّعلم متعدد الحواس، حيث يصبح النصّ المقروء تجربةً حسية، والرقمُ نافذةً على بنية الكون، والمعلومةُ جسراً إلى الوعي الذاتي.
-إدماج التعلم القصصي والتفاعل اللعبي كأدواتٍ ليست فقط لغرس المهارات، بل لتنمية الخيال، وتعزيز الشعور بالانتماء المعرفي، وبناء الهوية الفكرية للطفل.
-تعليم اللغة بوصفها أداة تفكير، لا مجرد وسيلة تواصل، مما يعزّز من قدرة الطفل على التعبير، والاستنتاج، والاستنباط.
ب-التدخلات العاطفية والاجتماعية
-تنمية الذكاء العاطفي عبر أنشطة تفاعلية تُساعد الطفل في التّعرف على مشاعره والتعبير عنها بطريقة صحيحة.
-تعزيز مهارات التعاون والعمل الجماعي من خلال أنشطة تعليمية قائمة على التّعلم التشاركي والمناقشات الصفّية.
ج-التشخيص والتقييم
-تشخيص قائم على التقييم البنائي، بحيث لا يُنظر إلى الطفل كمُتلقٍّ، بل كذاتٍ في حالة تشكّلٍ مستمر، تُراقب تطورها الذاتي بوعي ونقد.
-إشراك الأهل في عملية التقييم والمتابعة لتعزيز دور الأسرة في دعم التّعلم.
2-المرحلة الثانية (الصفوف 4-6 الأساسي): من التلقّي إلى التأمّل النّقدي
في هذه المرحلة، يتحول التعليم إلى أداة لفهم العلاقات بين المفاهيم، وبناء التفكير التحليلي والنقدي، بحيث ينتقل من كونه مجرد إجراء تقني لاكتساب المعارف، إلى كونه سيرورةً لفهم العالم وإعادة تركيبه فكرياً.
آ-التدخلات المعرفية والمهارية
-توسيع مهارات اللغة والرياضيات، مع إدخال مبادئ العلوم والتكنولوجيا لتعزيز الترابط بين المواد الدراسية.
-التعلم القائم على المشروعات والاستكشاف الذّاتي، بحيث يتدرّب الطالب على تحويل المعرفة من معطى جاهز إلى مادة تفكيرٍ وبحثٍ وإنتاج معرفي جديد.
-تفكيك أنماط التفكير التقليدية عبر أدوات التفكير الفلسفي، حيث يُصبح السؤال أداةً معرفيةً، لا مجرّد وسيلة للوصول إلى إجابة جاهزة.
-إدماج التقنية كوسيلةٍ توسّع الأفق الفكري، بحيث لا تكون الأدوات الرقمية مجرّد وسائل عرضٍ، بل فضاءاتٍ لإعادة إنتاج المعرفة من خلال التجربة الذاتية.
ب-التدخلات العاطفية والاجتماعية
-تنظيم ورش عمل للذكاء العاطفي والتواصل الاجتماعي، بحيث يطوّر الطلبة مهارات التفاعل الصحي مع الآخرين.
-تنمية الثقة بالنفس والاستقلالية الفكرية عبر مشاريع فردية وجماعية تعزز المبادرة الذاتية.
ج-التشخيص والتقييم
-استخدام التقييم البنائي متعدّد الأبعاد الذي يشمل الاختبارات، والمشاريع، والتقارير الدورية.
-تحليل تقدُّم الطلبة عبر أدوات تقييم نوعية مثل الملاحظة الصفية والاستبيانات التفاعلية.
3-المرحلة الثالثة (الصفوف 7-9 الأساسي): التعلُّم كأداة للتحرّر الذهني
إذا كان الفاقد التعليمي قد أضعف العلاقة بين الطالب والمعرفة، فإن هذه المرحلة تُعيد تأسيس تلك العلاقة على أسس الاستقلالية الفكرية، والقدرة على التفكير المجرد، والبحث النقدي.
آ-التدخلات المعرفية والمهارية
-التعلم القائم على البحث والاستقصاء، بحيث يصبح الطالب منتجاً للمعرفة لا مجرّد مستهلكٍ لها، عبر مشاريع بحثية وتحليلية تتحدّى أنماط التفكير التقليدي.
-توظيف المناظرات وحلقات النقاش المفتوح لصقل القدرة على التحليل والتفكير النقدي.
-دمج التكنولوجيا والتعلم الرقمي كأدوات لإعادة إنتاج المعرفة لا مجرّد وسائل عرض.
ب-التدخلات العاطفية والاجتماعية
-تنظيم منتديات طلابية للنقاش والتأمل الذاتي تعزز القدرة على التفكير المجرد واتخاذ القرار.
-تعزيز مهارات القيادة والمسؤولية الاجتماعية عبر مشروعات خدمة المجتمع والتدريبات الميدانية.
-تطوير برامج الصحة النفسية والإرشاد الاجتماعي لضمان نموٍّ متكاملٍ يتجاوز الأبعاد الأكاديمية إلى تعزيز المرونة الذهنية، والقدرة على إدارة التحديات، وإدراك التعليم بوصفه عمليةً مستدامةً للحياة.
ج-التشخيص والتقييم
-استخدام التقييم التراكمي والتقييم الذاتي لتطوير استقلالية المتعلم.
-إدخال تقييمات تطبيقية ومشاريع بحثية تقيس الفهم العميق بدلاً من الحفظ والاسترجاع.
إعادة التفكير في الفقد: نحو رؤية تحويلية للتعليم
بدلًا من اعتبار الفاقد التعليمي حالةً من العجز، علينا إعادة تعريفه بوصفه فرصةً للتحوّل وإعادة البناء. هذه الرؤية تتطلب:
-تحرير التعليم من النماذج التقليدية الميكانيكية، بحيث يكون الفكر النقدي، والقدرة على بناء المعرفة، والتفاعل الإبداعي عناصر محورية في العملية التعليمية.
-تطوير أدوات تقييم أكثر تكاملًا، لا تقيس مجرد الاسترجاع السطحي للمعلومات، بل عمق الفهم، وقدرة المتعلم على إعادة بناء المعرفة ضمن سياقات جديدة.
-تعزيز الشراكة بين المدرسة والأسرة والمجتمع، بحيث يُصبح التعليم مسؤولية جماعيةً، تنظر إلى المتعلم كفاعلٍ اجتماعي ومفكرٍ مستقبلي، لا مجرد متلقٍّ للمعرفة.
ختاماً، إنّ إصلاح التعليم لا يتم عبر حلولٍ آنيّةٍ تُعالج الأعراض دون الغوص في الجذور، بل عبر إعادة صياغة منظومةٍ تعليمية ترى في الفاقد فرصةً لبناء تعليم أكثر أصالة وعمقًا. حين يُصبح التعليم رحلةً تكوينية لا تُقاس بالكمّ، بل بالتحوّل الفكري، وحين يُصبح الفقد حافزًا لنهضة معرفية بديلة، وحين يتحوّل التحدي إلى أفقٍ جديدٍ للإبداع والتأمل، عندها فقط نكون قد بدأنا في بناء تعليمٍ حقيقي قادرٍ على إنتاج مواطنين مستقلين، ناقدين، مبدعين، مسؤولين عن مستقبلهم ومستقبل أوطانهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ ثروت زيد الكيلاني – باحث وكاتب، مستشار للشؤون التعليمية والمناهج ووكيل سابق في وزارة التربية الفلسطينية
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً