بقلم الدكتور محمدعياش*
ربما إسعاف العقل عند الضرورة واللحظة الحرجة، التي لا تقبل ولا تشفع لصاحبها بولوج فكرة ناضجة فيها الكثير من التغيير، أو من التنوع، باعتبار كل الأفكار كلاسيكية وأصبحت مملّة، أفضل من الفكرة ذاتها، على اعتبار أن العقل مركز الاستيلاد والتميز! ويمكن للحالة الإسعافية أن تكون الفكرة الأخيرة والنادرة في جعبة العصف الذهني الذي يواجه مشكلة، تلخصها مقولة تتردد منذ أكثر من أربعمائة عام، أطلقها الشاعر الإنجليزي الأشهر وليام شكسبير “نكون أو لا نكون”.
تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وقيادتها الجديدة نسف كل الأعراف والتقاليد التي سارت عليها منذ نشأتها الأولى، وبالتالي فإن التغيير المفاجئ في سياساتها الخارجية، وإبراز أنيابها ومخالبها لكل من يقف في وجه «الماغاميكس» الأمريكي الجديد، تشبه إلى حد كبير الإمبراطورية الإسبارطية التي عزّزت الصورة الذهنية لمواطنيها على أنّهم محاربون، وبالتالي فإن عليهم أن يكونوا جاهزين لكل جديد ومستحدث، الأمر الذي جعل السكان يسألون: لماذا نحارب وإلى متى؟ وهذا ما دفع في الوقت نفسه إلى “الاستفسار”، وهنا تبدأ النهاية!
واشنطن تشهر سيف الرسوم الجمركية على العالم، كواحدة من مؤشرات الاطمئنان على الأحادية، وبالتالي فإن السير وفق المركب الأمريكي له شروط، ومنها الإذعان والاستسلام للقدرية الأمريكية الجديدة، وجعل الجهد الاقتصادي العالمي يمرُّ عبر النهر الأمريكي ليصبَّ في خزائن واشنطن، فالعظمة والكبرياء لا تأتي بالمحاباة والمجاملة وتنشيط ما يسمى العلاقات العامة على أساس التنافس والاحترام المتبادل، إذ أن هذا الزمان انقضى وانتهى! فالعالم الأمريكي الجديد وقف على تلّة الذكاء الاصطناعي، وخوارزميات الحسابات البعيدة بالربح والخسارة، وجعل الأرباح مدعاة لسيل اللعاب عبر الهيمنة والغطرسة وفائض القوة؛ وأقلّه حسابات تكاليف وزارة الدفاع (البنتاغون) المرتفع في القمة بالقياس لكل وزارات العالم التي تختص بالدفاع عن أوطانها. ترامب هو الوحيد الذي يملك «لمسة ميداس»، بحيث كل ما يريد تنفيذه يصبح ذهباً أو ناجزاً، وذلك يعود للإستراتيجية الأمريكية العميقة والحديث عن حق القدرية والتكليف الإلهي وغيره من الأوهام والمخيلات والأراجيف والأسمار.
العالم الآن يسير وفق “سرير بروكراست” الذي صنعه دونالد ترامب، والذي من خلاله وضع المقاييس والشروط للتعامل مع واشنطن بالمدِّ والجزر. فكل دولة أياً كانت، سواءٌ أكانت من الدول الغنية أم من دول العالم الثالث عليها الخضوع لتجربة السرير المذكور، ومن خلال النتيجة يتقرر كيفية التعامل في المستقبل، وإخراج كل المدخرات، واستنفار الطاقات التي تتمتع بها كل دولة على حدة، من هذه العملية يجد الدولار طريقه للتعويم وفرضه بالقوة بعد المحاولات الحثيثة لتحييده وجعله في مراتب ثانوية.
بيئة عالمية مستجدة يصطحبها السخط والاشمئزاز. نتنياهو مستمرٌ بمجازره والإبادة الجماعية للقطاع، وتدمير البنية التحتية للضفة الغربية تمهيداً لضمها، وترحيل وتهجير ما تبقى من الفلسطينيين خارج البلاد بالإكراه، ويدفع بواشنطن لتدمير المنشآت النووية الإيرانية. توهمه وخيالاته الواسعة بتغيير الشرق الأوسط أصبحت حسب مقياسه وبيكاره!
ترامب يجرب نظرية المجنون، لا أحد يستطيع التكهن، أو أن يحزر ما يجول في خلده، فتصريحاته في الصباح تتبدل وتتغير في المساء. هدّد أهالي القطاع بالترحيل، ومن ثم تراجع، وعد بإنهاء الحرب وإذ به يزوّد «إسرائيل» بأعتى أنواع السلاح بأوزان كبيرة وكبيرة جداً. يخوض حرباً داخلية مع الدولة العميقة لتغيير الدستور وحلمه أن يتربع للمرة الثالثة، وربما للأبد مستنداً على ثروته تارة، وعلى الدعم الصهيوني المطلق تارة أخرى، وهو الذي استبعد رجالات لها باع بالسياسة ليضع محلها مجموعة من “الأليغارشيات الجديدة”، التي تتميز بالجشع والطمع والتوسع وتعمل معه على زيادة اضطراب الكرة الأرضية. في مخيلة ترامب أشياء كثيرة لا يمكن لعلم الأسترولوجيا (التنجيم) أن يتنبأ بها، لأنها تأتي حسب المشروب أو النخب الذي يتعاطاه رفقةَ أصدقائه من المصارعين وفي ملاعب الغولف، وخانات السهر والدياجير.
إن هذه البيئة، وهؤلاء الأشخاص المتنمرون، ما هي سوى إرهاصات قادمة لانزلاق العالم في أزمات، وفرصة لانتفاض العالم بوجهها؛ لأنها تريد قيادة العالم من فوق الجبل، والتمتع بثروات وطاقات الدول الفقيرة التي ستظل تبذل قصارى جهدها حتى ترضي هؤلاء الطامعين الحانقين. بالتالي فإن إدارة العالم الصحيحة لا تأتي عبر الخيال الذي سقفه الواقع، والواقع أغرب من الخيال، بل عبر تقدير الجهود واحترام الإمكانات والمقومات لكل بلدان العالم بعيداً عن الابتزاز والتصغير والتحجيم.
استدعاء ترامب الفوري لنتنياهو، والوقوف أمام صورتهما معاً في مكتب الرئيس، ما هي إلا حركة تذكير للعالم بأن قيادة العالم تتمحور حول هذين الشخصين، اللذان يتمتعان بنفس العقلية الدوغمائية، والنظرة الإسبارطية التي تستحضر التاريخ المتأهب للحروب الدائمة، والتي من خلالها فقط يمكن أن تستمر الحياة؛ أما من دونها فالتخويف من الآخر، وتحفيز مصطلح “الزينوفوبيا” (كراهية الآخر)، ولسان حالهما يقول: هذا العالم ونحن قادته، ماذا أنتم فاعلون ؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد عياش – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً