بقلم الدكتورة فاطمة صفراوي*
إشراف الدكتورة مسعودي فاطمة الزهراء*
تحوّلت الحرب الروسية الأوكرانية إلى ساحة قتال إعلامية شرسة، حيث يستخدم كلا الطرفين الإعلام كسلاح لا يقلُّ أهميةً عن الأسلحة التقليدية. إنها معركة للسيطرة على الرواية، وتشكيل الرأي العام العالمي والمحلي، وتقويض معنويات العدو. حيث تتجلى هذه المعركة في نشر روايات متناقضة بشكل جذري حول أسباب الحرب وأهدافها وتطوراتها ونتائجها.
الرواية الروسية
تسعى روسيا إلى تقديم حربها في أوكرانيا على أنها “عملية عسكرية خاصة” تهدف إلى تحقيق عدة أهداف رئيسية:
“تحرير” السكان الناطقين بالروسية: تزعم روسيا أن السكان الروس في أوكرانيا، وخاصةً في مناطق دونباس، يتعرضون للاضطهاد والإبادة الجماعية من قبل الحكومة الأوكرانية “النازية”.
“نزع السلاح” و”اجتثاث النازية” من أوكرانيا: تدّعي روسيا أن النظام في كييف يمثّل تهديداً لأمنها القومي بسبب توجّهاته “القومية المتطرفة” وعلاقاته المتنامية مع حلف شمال الأطلسي (الناتو).
حماية الأمن القومي الروسي: ترى روسيا أنّ توسُّع الناتو شرقاً يشكّل تهديداً وجودياً لها، وأنّ عمليتها في أوكرانيا تهدف إلى منع انضمام أوكرانيا إلى الحلف وإقامة منطقة عازلة.
تقديم صورة لأوكرانيا كدولة فاشلة: تسعى وسائل الإعلام الروسية إلى تصوير أوكرانيا كدولة ضعيفة ومنقسمة وفاسدة، غير قادرة على حكم نفسها، وأن التدخل الروسي ضروري لإعادة الاستقرار.
الأدوات الروسية في المعركة الإعلامية
وسائل الإعلام الحكومية: تسيطر الدولة الروسية بشكل كبير على وسائل الإعلام الرئيسية، وتقوم ببثّ روايتها الرسمية بشكل مستمر وموحّد.
الدعاية والتضليل: يتمّ نشر معلومات مضلّلة وأخبار كاذبة بهدف تشويه صورة أوكرانيا وحلفائها وتقويض مصداقيتهم.
الحرب النفسية: تستخدم روسيا تكتيكات الحرب النفسية للتأثير على معنويات الجنود والمدنيين الأوكرانيين ونشر الخوف والارتباك.
الجيش الإلكتروني: يُستخدم لتعديل صفحات ويكيبيديا ونشر التعليقات المؤيّدة للكرملين ومضايقة المعارضين على الإنترنت.
تعزيز المشاعر المعادية للغرب: يتم استغلال المشاعر التاريخية المعادية للغرب لتوحيد الرأي العام الداخلي وتبرير السياسات الروسية.
الرواية الأوكرانية
تقدم أوكرانيا حرب روسيا عليها على أنها غزوٌ غير مبرّر وغير قانوني لدولة ذات سيادة، يهدف إلى احتلال أراضيها وتدمير هويتها الوطنية. تركّز الرواية الأوكرانية على:
الدفاع عن الوطن والسيادة: يتم تصوير الحرب كصراع من أجل البقاء وحماية الأراضي الأوكرانية من العدوان الروسي.
توحيد الشعب الأوكراني: ساهم الغزو في تعزيز الشعور الوطني والوحدة بين الأوكرانيين في مواجهة العدو المشترك.
فضح جرائم الحرب الروسية: يتم توثيق ونشر الأدلة على الفظائع التي ارتكبتها القوات الروسية ضد المدنيين الأوكرانيين لحشد الدعم الدولي وزيادة الضغط على روسيا.
طلب الدعم الدولي: تسعى أوكرانيا إلى حشد الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي من الدول الغربية لتمكينها من الدفاع عن نفسها.
تصوير روسيا كدولة معتدية: يتم تقديم روسيا كدولة إرهابية تنتهك القانون الدولي وتهدّد الأمن والاستقرار العالميين.
الأدوات الأوكرانية في المعركة الإعلامية
وسائل الإعلام المحلية والدولية: تعتمد أوكرانيا على وسائل الإعلام المحلية والدولية لنشر روايتها وتغطية الأحداث على الأرض.
وسائل التواصل الاجتماعي: يلعب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والحكومة الأوكرانية دوراً نشطاً على وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مباشرة مع الجمهور العالمي.
التعاون مع الصحفيين الدوليين: يتم تسهيل عمل الصحفيين الدوليين في أوكرانيا لضمان تغطية الأحداث بشكل مباشر.
الحرب الإلكترونية المضادة: يشارك “جيش الإنترنت” الأوكراني في مواجهة الدعاية الروسية ونشر المعلومات الصحيحة.
التركيز على القيم الديمقراطية والإنسانية: يتم التأكيد على القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تدافع عنها أوكرانيا في مواجهة “الاستبداد” الروسي.
معركة الروايات وتأثيرها
تعتبر معركة الروايات حاسمة في هذه الحرب لأنها تؤثر على:
الرأي العام العالمي: يمكن للرواية المهيمنة أن تؤثّر على مواقف الحكومات والمنظمات الدولية والرأي العام العالمي تجاه الحرب.
الدعم الدولي: يمكن للرواية المقنعة أن تحشد الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لأحد الطرفين.
المعنويات: يمكن للحرب الإعلامية أن تؤثر على معنويات الجنود والمدنيين في كلا الجانبين.
التفسير التاريخي: ستشكل الرواية المهيمنة الطريقة التي سيتم بها تذكُّر هذه الحرب وتحليل أسبابها ونتائجها في المستقبل.
التحديات
التحقق من المعلومات: وسط تدفُّق هائل من المعلومات والأخبار، يصبح التحقق من الحقائق وتمييزها عن الأخبار الكاذبة والدعاية تحدياً كبيراً.
الاستقطاب: تخلق الروايات المتناقضة استقطاباً حاداً في الرأي العام، مما يجعل من الصعب تحقيق فهم مشترك للأحداث.
الرقابة: يفرض كلا الطرفين قيوداً على الوصول إلى المعلومات ويسعيان للسيطرة على السرد الإعلامي في مناطقهما.
في الختام، فإن الإعلام ليس مجرّد أداة لتغطية الحرب الروسية الأوكرانية، بل هو سلاح حاسم في هذه المواجهة. إنها معركة شرسة للسيطرة على الحقيقة وتشكيل التصورات، ومعركة الروايات المتناقضة ستستمر في التأثير على مسار الحرب ونتائجها على المدى الطويل.
بالتأكيد، لنتوسع أكثر في دور الإعلام كسلاح في الحرب الروسية الأوكرانية، مع التركيز على بعض الجوانب الإضافية والتفصيلية:
1-تقنيات التضليل المتقدمة
الأخبار الكاذبة المصمّمة: لم يعد التضليل يقتصر على نشر أخبار ملفّقة بشكل بسيط. بل يتم تصميم حملات تضليل معقّدة تتضمن إنشاء مواقع ويب مزيّفة تبدو وكأنها مصادر إخبارية موثوقة، واستخدام حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الروايات المطلوبة وتضخيمها، وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لإنشاء صورٍ ومقاطعَ فيديو مفبركة (Deepfakes) تبدو واقعية.
زرع العملاء المؤثّرين: يتم استغلال شخصيات مؤثّرة (Influencers) على وسائل التواصل الاجتماعي، سواء أكانوا عن قصد أم عن غير قصد، لنشر رسائل محددة أو تضخيم روايات معينة.
التلاعب بالخوارزميات: يسعى كلا الطرفين إلى فهم خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي واستغلالها لزيادة انتشار محتواهما وتقليل ظهور محتوى الطرف الآخر.
استهداف الجمهور المحدّد: يتمّ تكييف الرسائل الإعلامية لتناسب شرائح مختلفة من الجمهور، سواء داخل أوكرانيا أو روسيا أو في الدول الغربية، مع التركيز على المخاوف والقيم الخاصة بكل شريحة.
2-دور وسائل التواصل الاجتماعي
منصة للمعلومات الفورية: توفر وسائل التواصل الاجتماعي تحديثات فورية للأحداث على الأرض، وغالباً ما تكون أسرع من وسائل الإعلام التقليدية. هذا يسمح بنشر الروايات بسرعة كبيرة.
أداة للتعبئة والحشد: تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتنظيم المظاهرات وجمع التبرعات وحشد الدعم للقضية.
ساحة للمعركة الإعلامية المباشرة: يتحول المستخدمون العاديون إلى جنود في الحرب الإعلامية، حيث يقومون بمشاركة الأخبار والآراء والدفاع عن رواياتهم.
تحديات التحقق والمصداقية: الانتشار السريع للمعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي يجعل من الصعب التحقق من مصداقيتها، مما يزيد من خطر انتشار الأخبار الكاذبة والتضليل.
3-تأثير الرقابة والقيود على حرية الصحافة
روسيا: فرضت روسيا قيوداً صارمة على وسائل الإعلام المحلية، وحظرت العديد من وسائل الإعلام الأجنبية، وجرّمت نشر أي معلومات تتعارض مع الرواية الرسمية للحكومة حول “العملية العسكرية الخاصة”. هذا يخلق بيئة إعلامية أحادية الجانب داخل روسيا.
أوكرانيا: فرضت أوكرانيا أيضاً بعض القيود على حرية الصحافة بحجة الأمن القومي والحرب، لكنها لا تزال تسمح بقدر أكبر من التنوع في وجهات النظر مقارنةً بروسيا.
التأثير على التغطية الدولية: تؤثّر القيود المفروضة على حرية الصحافة على قدرة الصحفيين على تغطية الأحداث بشكل مستقل وموضوعي، مما قد يؤدي إلى تشويه الصورة العامة.
4-البعد النفسي للحرب الإعلامية
تقويض الروح المعنوية للعدو: يسعى كلا الطرفين إلى استخدام الإعلام لتقويض الروح المعنوية لجنود ومدنيي الطرف الآخر من خلال نشر أخبار عن الهزائم أو الانقسامات الداخلية أو الفظائع المرتكبة.
بناء الدعم الداخلي: يهدف الإعلام إلى تعزيز الشعور بالوحدة والتضحية والصمود لدى السكان المحليين.
التأثير على صنّاع القرار: يمكن للروايات الإعلامية القوية أن تؤثر على قرارات القادة السياسيين والعسكريين على كلا الجانبين وعلى مواقف الدول الأخرى.
إثارة المشاعر: يتم استخدام الصور ومقاطع الفيديو المؤثرة لإثارة مشاعر التعاطف أو الغضب أو الخوف لدى الجمهور المستهدف.
5-دور المنظمات الدولية وجهود مكافحة التضليل
جهود التحقق من الحقائق: تقوم العديد من المنظمات ووسائل الإعلام المستقلة بجهود للتحقق من الحقائق وفضح الأخبار الكاذبة والتضليل المتعلق بالحرب.
دعوات إلى الشفافية والمساءلة: تدعو المنظمات الدولية إلى ضمان الشفافية والمساءلة في تغطية الحرب وحماية الصحفيين.
مبادرات لمكافحة المعلومات المضللة: يتم إطلاق مبادرات لتعليم الجمهور كيفية التعرف على المعلومات المضللة ومكافحتها.
في الختام
تتجاوز الحرب الروسية الأوكرانية ساحة المعركة التقليدية لتشمل حرباً إعلامية معقدة ومتطورة. يستخدم فيها كلا الطرفين ترسانة واسعة من الأدوات والتقنيات للتأثير على الرأي العام وتشكيل الرواية المهيمنة. إن فهم هذه المعركة الإعلامية أمر بالغ الأهمية لوعي الديناميكيات الكلية للصراع وتداعياته على المدى الطويل. ففي هذا الصراع، لا تقل الكلمات والصور قوة عن الرصاص والقذائف في تحديد مسار الحرب وتشكيل مستقبل العلاقات الدولية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتورة فاطمة صفراوي-أستاذة جامعية، دكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.
*الدكتورة فاطمة الزهراء مسعودي–أستاذة محاضرة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة تلمسان (الجزائر).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً