بقلم الدكتور محمدعياش*
تشكلّت الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج خالف الأفكار التي قامت عليها أوروبا القارة العجوز، وذلك بعد حربين عالميتين مدمّرتين؛ الأولى من 28 يوليو/تموز 1914 إلى 11 نوفمبر/كانون الأول 1918، والحرب الثانية من 1 سبتمبر/أيلول 1939 إلى 2 سبتمبر/أيلول 1945 راح ضحيتهما ما يقارب 100 مليون قتيل؛ لأسباب عدة وأهمها على الإطلاق الشوفينية المستندة على الخطاب الشعبوي الذي يرى ضرورة التمدد
والتوسع بحجة الطبيعة التي تقف مع الأقوى، وحتى ولو على حساب الآخر؛ لاعتقاده بالحق القيادي والإدراي للمناطق التي يرى فيها مصلحة عليا تؤمّن له البقاء وتعزز القدرة على التمكين لقيادة العالم، وعلى الآخر القبول بهذا الوضع، ووضع كل إمكاناته وطاقاته في خدمة النظام الجديد الذي لا يقبل حتى فكرة المنافسة. إذ يعتبر رواد هذا الرأي الدُغمائي ذي الاتجاه الواحد أنّ الرّب أو الإله يبارك هذا التصرف أو الجموح نحو السيادة، وهذا ما تجلّى بعد الثورة الفرنسية عام 1789 وإلغاء شرعية الدين كمنطلق للحكم وحلّ محلّهُ النظام الليبرالي القائم على منطق القوة.
هذه القوة- التي استفادت من الحربين العالميتين- لابد لها من عنصر مهم يحميها ويجعلها متفردة بآليات، وأبرز هذه الآليات: الدولار! الذي ظهر لأول مرة 1792 وتعزيز مكانته وفرضه كعملة يتم تداولها عالمياً، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل تجاوز ذلك إلى افتعال حروب وأزمات تستثمر واشنطن من خلالها وفيها إلى أبعد نقطة. يقول الرئيس الرابع والثلاثون دوايت ديفيد ايزنهاور1953-1916:” نصنع الأعداء لكي نصنع السلاح!” ووزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر الذي رحل عن هذه الدنيا العام الماضي قال:” إن نشوب أزمة أو خلاف بين دولتين أو أكثر يتطلب من واشنطن التريث حتى تتضح الفائدة من التدخل!” تحاول واشنطن دائماً لعب دور القيادي الناظم والمنظم للخلافات والاختلافات بين الدول، وأكثر جهة تدعمها واشنطن جهة الحكام لا الشعوب وخاصة الديكتاتوريين الذين يتعاملون مع شعوبهم وفق منطق الترهيب والوعيد بالإضافة إلى استئثارهم بالحكم واللعب بقوانين الدستور، حتى يتوافق والشروط التي تضمن لهم أكثر فترة ممكنة، مع العلم بأن أكثر الدول في العالم انتهاكاً للدستور والقوانين الدولية هي الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وأداتهم في هذا المضمار، مجلس الأمن، وعدم اعترافهم بالمحاكم الدولية بكل أنواعها!
لذلك نجد في عمليات البحث في سيرة الرؤساء الأمريكيين محاولات حازمة لتكريس الآليات الناظمة وتشديد القبضة على أن تكون واشنطن الدولة التي لا تنازعها أي قوة في العالم. فمثلاً درجت العادة أن يسمى المبدأ باسم الرئيس الذي أطلقه مثل مبدأ مونرو الذي ينص على واجب الولايات المتحدة أن تدافع عن مناطق نفوذها ومصالحها بالقوة، ومبادئ ويلسون الأربعة عشر، ومبدأ إيزنهاور ملء الفراغ… الخ. وليس آخرها بالطبع مبدأ ترامب الذي ينص على ترحيل شعب أنهكه الحصار لأكثر من اثنتي عشرة سنة. وأعقبه حربٌ مدمرةٌ لـمدة خمسة عشر شهراً، تم فيها إلقاء أكثر من 100 ألف طن من المتفجرات وراح ضحيتها أكثر من 150 ألفاً بين شهيد وجريح ومفقود تحت الركام. وما زاد من الكارثة تصميمه على تنفيذ مخططه الجهنمي، الذي يخدم بالدرجة الأولى الكيان الصهيوني الذي بدوره يصمم على نزع سلاح المقاومة وتفكيك الكتائب المسلحة، ونفيها خارج البلاد لينطلق بعدها لاستكمال المشاريع الصهيونية من التطبيع مع المملكة العربية السعودية، وإغراق المنطقة بالمعاهدات الاقتصادية، والولوج إلى بقية الدول العربية وفرض التطبيع. وكأن بن غوريون المؤسس يبتسم في قبره، وهو القائل: “حدودك يا إسرائيل حيث يصل جيشك”. ألا يُعتبر المال، وربط الأعمال وتقييد البلاد والعباد به، احتلالاً من نوع آخر؟
الهدف من ترحيل الفلسطينيين من القطاع له عدة أوجه: الغاز والنفط والأرقام الخيالية وراء ذلك وربما قناة بن غوريون ومخططاتها الجاهزة؛ إذ أضافت الولايات المتحدة غزة للمفاتيح الثلاثة بعد مضيق هرمز وملقة وقناة بنما، وضرورة السيطرة عليه لهذه الغايات بطريقة فاقت العقل والمنطق. والمستند القانوني لهذا الإجراء من وجهة النظر الترمبية سلطة الولايات المتحدة الأمريكية، وتعويم الكيان الصهيوني كقوة قاهرة في منطقة الشرق الأوسط تضمن لواشنطن التدخل وقت ما شاءت، وربط المنطقة برمتها بالمشاريع الاقتصادية المزمع قيامها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد عياش – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً