بقلم الدكتور محمد عياش*
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية استنفدت كلّ الطرق والاستراتيجيات التي كانت تنتهجها منذ النشأة وحتى الوضع الراهن، وبالتالي فإن عليها واجب العودة للتاريخ والقراءة بطريقة متعمّقة، وملاحظة ما يسمى السلم البياني في حالة الارتفاع ونجاح سياساتها التي أثمرت وحافظت على هيبتها، والرهبة العالمية من الغضب الأمريكي في كثير من الحالات، والوقوف عندها لترتيب الأولويات، وإعادة ما يسمى المحافظة على القوة الأمريكية التي لا تنازعها قوة في العالم، والتدوير مجدداً لطرح الشعار القائم، أمريكا أولاً وثانياً وثالثاً.. “الماغا”.. اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، واختصاراً لـ Make America Great Again.
إن الولايات المتحدة بوضعها الراهن تؤكّد فشلها بالوصول من القوة الأولى إلى ما يسمى الأمة الأمريكية، وهذا ما يغفل عنه الكثير من الاستراتيجيين الأمريكيين، ونبّه إليه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بوصفه أن أمريكا تشبه الأمة المترددة التي لا تستقر على حال من الأحوال، وبالتالي فإن واشنطن بوجود رئيس بوليميكي كترامب، تستنفر كل طاقاتها بكل الاتجاهات لعودة الحضور الأمريكي الدولي المهاب، من بوابة الحلول السريعة للأزمات والحروب.
إنّ خطاب ترامب الشعبوي، يشبه إلى حد كبير خطاب الفوهرر هتلر إبان فقدان الهيبة بعد الهزيمة المرّة التي لحقت بالجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى وما تلاها من اتفاق أذلّ الألمان (فرساي) والذي أعطى الحق للحلفاء بالتحكم والتقسيم في بلد كان من الممكن أن يكون مكان الولايات المتحدة في وقتنا.
لقد كانت سياسة هتلر تسعى إلى إعادة تموضع ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ولعبت الأزمة الاقتصادية التي ضربت النظام الرأسمالي عام1929 دوراً كبيراً في تمهيد الأرضية لصعود الأحزاب الشعبوية واليمينية، تماماً كما هو الحال في صعود دونالد ترامب.
عبارة أخرى (جاء هتلر إلى السلطة كما جاء ترامب)؛ عبر خطاب شعبوي عبّر عن الأزمة الاقتصادية الداخلية وعن تراجع مكانة الدولة في النظام العالمي.
في خطاب تنصيبه، أشاد ترامب كثيراً بالرئيس الأمريكي الخامس والعشرين، ويليام ماكينلي، الذي أشعل الحرب ضد إسبانيا عام 1898 للاستحواذ على مستعمراتها، حيث احتلت الولايات المتحدة جزيرة غوام وهاواي والفلبين وبورتوريكو، وأجبرت إسبانيا على الخروج منها، مع فرض ضرائب على السلع المستوردة من الدول الغربية. يحاول ترامب المزج بين نهج هتلر العنصري وسياسة ماكينلي التوسُّعية، فهو قريب من فكر النازية بقدر قربه من النهج السياسي والعسكري لماكينلي. وكما ضرب هتلر عرض الحائط بجميع الاتفاقيات مع الدول الأوروبية، وأعلن الحرب عليها بحجة إعادة الهيبة لألمانيا، يسير ترامب على النهج ذاته تجاه حلفاء الولايات المتحدة، رافعاً شعار “أمريكا أولًا”.
خامس الرؤساء الأمريكيين جيمس مونرو 1817 – 1825 والذي يعد من الآباء المؤسسين، انتهج سياسة واضحة عنوانها إبعاد كل المخاطر والمخاوف عن مناطق النفوذ والمصالح الأمريكية بالقوة، والتي أصبحت مبدأً يعود إليه. ترامب يعود بنا إلى التاريخ ويمزج بين المبادئ والسياسات والمهم عنده الوصول إلى الشعار الذي ذكرناه في بداية المقال، ولكن هذه المرة المخاطر المحدقة من كل جانب، فالصين تتقدم خطوات اقتصادية كبيرة بالرغم من القيود والعقوبات الاقتصادية التي يفرضها ترامب سيما في المرحلة الأولى من ولايته، ومع بداية المرحلة الثانية أكد على فرض الرسوم الجمركية على الصين وبعض الدول الاقتصادية الكبرى كـ كندا وروسيا والاتحاد الأوروبي، وكل هذا في كفّة، وقرار ترحيل الفلسطينيين من غزة خارج القطاع في كفّة!
وسط الاستهجان الدولي والشجب والإدانات لهذه الرؤية الضريرة وشطب الحقوق الفلسطينية، والتغافل عن العامل الرئيس الذي أدى لتدمير غزة ألا وهو الكيان الصهيوني الذي يجب عليه الرحيل والاعتراف للشعب الفلسطيني بحقوقه الكاملة والمشروعة، وإحالة مرتكبي المجازر التي ترقى للإبادة الجماعية وتسليمهم إلى المحكمة، يقفز ترامب فوق المعاناة والكارثة التي حلت بقطاع غزة والضفة الغربية والتغول الصهيوني الحاصل، موجهاً إنذاراً مع مهلة تنتهي منتصف السبت المقبل 15 شباط / فبراير، وإلا الجحيم سيكون من نصيب القطاع !.
حريٌّ بالرئيس الأمريكي الهائج أن يقرأ في التاريخ، وعليه أيضاً قراءة سيرة هتلر بدقة، وخصوصاً النهاية الغامضة، غزة وأهلها لم و لن يرحلوا ما بقي الزعتر والزيتون، وعليه أن يعترف بأن العالم لم يعد يثق بالولايات المتحدة التي أصبحت مشعل الحرائق في العالم، فإذا كانت هناك أزمات داخلية تعصف بالبلاد، ابحث عن حلها عبر الشراكات والتنافس الشريف وإبعاد الفاسدين ومُخلّي الأمن والأمان بعيداً عن تهديد الدول المستقلة التي ترى في نفسها أفضل الدول، لاسيما التي نجحت ببرامجها الاقتصادية والتنموية وتعيش حالة مستقرة مع شعوبها، أمريكا إلى زوال إذا استمر الحال على ما هو عليه مع رئيس شعبوي دغمائي لا يجيد إلا الخطاب الديماغوجي الأخرق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد عياش – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً