بقلم الأستاذ سفيان حشيفة*
يبدو أن الجزائر قرّرت بالفعل الابتعاد نهائياً عن فكرة الانضمام إلى تجمّع “بريكس” بعد رفض ملف عضويّتها في قمة جوهانسبرغ نهاية شهر أوت من عام 2023م، وبدأت سريعاً في مراجعة علاقاتها السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية مع دول العالم شرقاً وغرباً، وفق منظورٍ براغماتي يُراعي مصالحها الوطنيّة والقوميّة العُليا.
تعرّضت الجزائر إلى خيبة أملٍ كبيرة إثر إقصائها غير المنطقي من تكتُّل بريكس، حيث سبق وأن تقدمت بطلبٍ للانضمام لهذه المنصّة التي تضمّ الصين والبرازيل وروسيا والهند وجنوب إفريقيا، سعياً منها لتعزيز علاقاتها مع أعضائها، وتنويع فرص الاستثمار والأعمال أمام اقتصادها الناهض بشتى القطاعات غير البترولية، وحصلت على تطمينات واضحة من الرئيسين فلاديمير بوتين وشي جين بينغ أثناء زيارة الرئيس تبون إلى موسكو وبكين خلال شهري جوان وجويلية 2023، قبل انعقاد قمة جوهانسبرغ بأسابيع قليلة، ولم ينتج عن تلك الضّمانات حول عضويّة الجزائر في المجموعة أيّ أثرٍ إيجابي، وتمّ رفضها من دون أيّ مبررات واضحة، في حين قُبلت ملفات دول أخرى كان وضعها السياسي هشّاً واقتصادها أقلّ نجاعة وموثوقية ويقيناً.
وقد لاقى استبعادها المُفاجئ من عضوية المنظمة “بريكس”، حينها، غضباً شعبياً، ورود أفعالٍ سلبية صادرة عن الرأي العام الجزائري الذي علّق آمالاً كبيرة على هذا التّجمّع الاقتصادي في سبيل مواجهة الأحادية القطبية في العالم، بسبب الطريقة المعتمدة في انتقاء عضوية الدول به، باعتبارها كانت غامضة، ولا تعبّر عن الشفافية والعقلانية في الاختيار، خاصة بعد تصريحات وزير خارجية روسيا، السيد سيرغي لافروف، عندما قال كلاماً حول الموضوع لم يرُقْ للجزائريين وأثار حفيظتهم.
وعلى هذا الأساس، طوت الجزائر نهائياً صفحة التحاقها بركب البريكس، حتى وإنْ كانت عضواً في بنكها، بحسب ما أكّدته جريدة المجاهد الحكومية نقلاً عن مصدر جدّ مطلع، حيث جاء تصريح الصحيفة قبل شهرٍ من انعقاد قمة المنظمة السادسة عشرة في مدينة قازان بجمهورية تتارستان الروسية سنة 2024، في إشارة إلى أن موضوع بريكس بالنسبة للجزائر صار مغلقاً، رغم الحديث المتواتر، آنذاك، عن ترشيح دول جديدة لعضوية التكتل بذات الاجتماع.
وفضّلت الجزائر خيار الانفتاح أكثر على كل دول العالم بقطبيه الغربي والشرقي، وفق ما تُمليه مصالحها السياسية والاقتصادية الكُبرى، والتوّجه ببراغماتية نحو بلدان بعينها لإقامة شراكات قوية وموثوقة، على سبيل المثال اختارت إيطاليا لتكون شريكاً اقتصادياً استراتيجياً لها في قارة أوروبا، وتركيا في الشرق الأوسط، وقطر وسلطنة عُمان في الخليج العربي، وفي آسيا الصين والهند، وجنوب إفريقيا ومصر في القارة السمراء، أما في أمريكا الشمالية فارتقت علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى مستوى غير مسبوقٍ من التقارب والتّعاون الثّنائي بين البلدين، مع رفع التنسيق المشترك بينهما إزاء مختلف القضايا الدولية الرّاهنة خاصة ما تعلّق بالسّاحل وإفريقيا.
كما عرفت العلاقات الجزائرية الأمريكية بالتحديد، خلال شهري جانفي وفيفري من السنة الحالية 2025م، حراكاً دبلوماسياً وأمنياً رفيعاً، ترجم مدى رغبة الطرفين في الرّقي بالعلاقات الثنائية بين الدولتين، وتطويرها بكافة المستويات سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً.
وفي هذا الخصوص، أكّد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في حوار أجراه مؤخراً مع جريدة L’OPINION الفرنسية، أن العلاقات الجزائرية الأمريكية ظلّت في مستوىً جيّد مع جميع الرؤساء الأمريكيين، سواءٌ أكانوا ديمقراطيين أم جمهوريين، والجزائريون لن ينسوا أبداً أن الولايات المتحدة عرضت المسألة الجزائرية على هيئة الأمم المتحدة إبّان حرب التحرير المجيدة.
وأوضح رئيس الجمهورية في سياق تصريحاته، أن أكبر مشاريع الجزائر المجسّدة في عهد الرؤساء بومدين والشاذلي وبوتفليقة، جرى إنجازها مع الأمريكيين، سواءٌ في قطاع المحروقات أو في مجالات أخرى، مشيراً إلى أنّ الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي لديها مدينة تحمل اسم البطل القومي الجزائري الأمير عبد القادر.
ويُعزى هذا النسق الإيجابي المستمر في العلاقات الجزائرية الأمريكية، رغم ما شهدته منطقة الشرق الأوسط من ظروف جيوسياسية جدّ مقعدة في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، ومطلع الألفية الجديدة، إلى نتاج عمل دبلوماسي إيجابي مشترك بين البلدين، قِوامُه الاحترام المتبادل القائم على مبادئ محدّدة متركزة على المصالح المشتركة، وكذا التنسيق الأمني الإستراتيجي حول مختلف القضايا الدولية المطروحة لاسيما ما تعلق بمكافحة ظاهرة الإرهاب.
وباعتبارها دولة إقليمية ومحورية صاعدة، فرضت الجزائر هيبتها ونفوذها في قارة إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط منذ نيل استقلالها بداية ستينيات القرن العشرين، بفضل حنكة دبلوماسيتها الحصيفة، ورجاحة أطروحاتها السياسية والأمنية في معالجة القضايا الدولية المُستجدّة، والولايات المتحدة لكونها دولة كبرى قدّرت هذا الأمر، وراعت مدى تأثير الدور الجزائري على المنطقة، ووجاهة تفاعلاته مع الأحداث الحَاصِلة، بغضّ النّظر عمّا كان يحدث في دول ومناطق أخرى قريبة من الحيّز الجغرافي.
كما يعدّ تفاعل الجزائر مع مسائل الأمن والاستقرار في قارة إفريقيا والشرق الأوسط، أنموذجاً واقعياً وصلباً، وفق منظور الأمم المتحدة، وباعتراف أجهزتها ومسؤوليها المتعاقبين، مما أهّلها لتكون شريكاً أساسياً للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب والجرائم العابرة للحدود في القارة السمراء، التي تعرف بدورها هزّات أمنية خطيرة، وتفككاً سياسياً ودستورياً ببعض دولها خاصة في منطقة الساحل من دكار غرباً إلى الخرطوم شرقاً.
وفي ظلّ هذه الظروف، تَنشُد العلاقات بين الجزائر وواشنطن تطبيعاً أعمق، لكي يتعدّى المسائل الطاقوية والأمنية، ويشمل الصناعات الميكانيكية والتحويلية والزراعة والإنتاج الصيدلاني والسياحة وغيرها من القطاعات الحيوية، مع ضرورة تمكين استفادة بلد الشهداء من التكنولوجيا الأمريكية الرائدة عالمياً بمختلف الميادين، لتُواكب العلاقة المأمولة مستوى التفاهم الثّنائي الطّيب الذي يجمع البلدين منذ قرون خلت بداية من حقبة دايات الجزائر.
إلى ذلك، يتعيّن الترويج أكثر لفرص الاستثمار التي تتيحها الجزائر بعد تعديل مشروع قانونه، وتحيين منظومته بشكلٍ محفزٍ لبيئة الأعمال المحلية، مما ساهم في تسهيل الفِعل الإنتاجي، وتشجيع تجسيد مشاريع أجنبية مباشرة وفق قاعدة رابح- رابح، خاصة مع وجود قطاعات خصبة وجاهزة لاستقطاب استثمارات أمريكية في مجالات الطاقات المتجددة والفلاحة والأشغال العمومية والاقتصاد الرقمي.
وتاريخياً، عرف مسار الثورة التحريرية الجزائرية المظفرة سنة 1961م تصريحاً مهماً لوزير الخارجية الأمريكي، أكد فيه، آنذاك، أن بلاده تُؤيِّد حقّ الشّعب الجزائري في تقرير مصيره، وكذا حقّه في نيلِ استقلاله، وبعد استفتاء تقرير المصير التاريخي مباشرة في الفاتح من جويلية 1962م، اعترف البيت الأبيض في الثالث من نفس الشهر باستقلال جمهورية الجزائر الديمقراطية الشعبية.
وبالحديث عن العلاقات الجزائرية الروسية، فقد شهدت فتوراً منذ أشهر قليلة، بسبب دعم موسكو للمجلس العسكري الانقلابي في دولة مالي، وتبنّيها نهجاً مزعزعاً للاستقرار في السّاحل الإفريقي وشمال إفريقيا، زاده توتراً استجلاب مجموعة “فاغنر” أو ما يُسمّى بالفيلق الإفريقي قرب حدودها الجنوبية، قصد التّعدّي الصّارخ على مجتمع الطوارق أصيل المنطقة جغرافياً وثقافياً، في انتهاكٍ واضحٍ للقانون الدولي وقرارات هيئة الأمم المتحدة.
التّضارب في المصالح والتّوجّهات بين الجزائر وروسيا الاتحادية بشمال إفريقيا والسّاحل، رافقه إسقاطات أخرى على الصّعيد الاقتصادي؛ نظراً إلى تأخّر موسكو عن الاستثمار في الجزائر بعد تعديل قانون بيئة الأعمال فيها، ودخول شركاء آخرين ضخّوا عشرات المليارات من الدولارات في قطاعات غير طاقوية مثل الصين وإيطاليا وتركيا وقطر وسلطنة عُمان ومصر، وذلك تماشياً مع رؤية الدولة الجديدة الرامية إلى تنويع مصادر اقتصادها ودخلها القومي.
ورغم ذلك، لم تُبالغ الجزائر في تأزيم علاقتها مع موسكو رداً على مساندتها للمجلس العسكري الحاكم في باماكو، وحافظت على روابطها التاريخية والإستراتيجية مع الكرملين قدر الإمكان، وكان آخر تفاعل إيجابي بين الدولتين يتمثّل في التئام أشغال الدورة الثانية عشرة للجنة الحكومية المشتركة الجزائرية-الروسية للتعاون الاقتصادي والتجاري والعلمي والتقني، في الثلاثين من شهر جانفي الفارط بالجزائر العاصمة، ترأسها وزير الفلاحة والتنمية الريفية والصيد البحري، السيد يوسف شرفة، مناصفة مع نائب رئيس الوزراء الروسي، السيد ديمتري باتروشاف.
ومن جهته، أكد سفير روسيا الاتحادية الجديد لدى الجزائر، السيد أليكسي سولوماتين، عقب تقديم أوراق اعتماده إلى رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، أنّ الجزائر دولة صديقة لروسيا، وسيعمل على اتخاذ كل الخطوات الممكنة، وبذل الجهود الكفيلة بتطوير وتعميق العلاقات التي تجمع البلدين في مجالات عدّة.
الجزائر دولة مؤسسات دستورية وقانون لا دولة أفراد أو عائلات، لقد احتلت مكانة دولية مرموقة بعد سيطرتها على مجرى الأحداث بغرب حوض البحر الأبيض المتوسط وقارة إفريقيا منذ استقلالها في الخامس من جويلية عام 1962م، إذ تسعى كثير من دول العالم إلى إقامة علاقات دبلوماسية قوية معها مبنية على الثقة والاحترام المتبادل، وعقد شراكات واتفاقيات ومعاهدات سياسية واقتصادية وأمنية ذات طابع ثنائي، وهذا ما يُعلّل رغبة بلدان القطبين الشرقي والغربي في الحفاظ على صداقتها وشرَاكتِها وفق منظورٍ استراتيجي مستدامٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ سفيان حشيفة – صحفي وكاتب سياسي جزائري
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً