بقلم الأستاذ بشار مرشد*
مقدمة
كان حلم أفلاطون بدولة فاضلة يحكمها “الملك الفيلسوف” ضربًا من الطوباوية، بقي عصيًا على التحقق، واستحال تطبيقه على أرض الواقع. فالمعرفة الكاملة والحكمة المطلقة التي تخيلها الفيلسوف اليوناني صفات لم ولن يملكها بشر. ومع ذلك، وفي عصرنا هذا، حيث أصبحت السلطة أقرب منالًا وأيسر طريقًا، ظهر صنف جديد من المدّعين أطلقوا على أنفسهم صفة “الأفلاطونيين”. غير أنهم لا يملكون وقار الفلاسفة ولا عمق الحكماء، بل يملكون ملكة واحدة: التفيهق؛ أي ملء فراغ الجهل بضجيج الادعاء.
الأفلاطونيون الجدد
هؤلاء المتفيهقون الجدد يلوكون الكلام في كل ميدان. في الاقتصاد يتحدثون كأنهم ورثة “آدم سميث”، وفي الطب يفتون وكأنهم من تلامذة “ابن سينا”. لا يهابون التسلل إلى قضايا الهندسة والجغرافيا، ولا يرون غضاضة في الخوض في الطب والعسكر، لأنهم يظنون أن السياسة فن معرفة كل شيء، لا فن إدارة شؤون الناس عبر أهل الخبرة. خطبهم تتشح بلبوس المعرفة، لكن باطنها خواء، ومع ذلك ينجحون في إقناع العامة أنهم خبراء، فيزاحم صوتهم صوت العالم، وتُناط بهم قرارات مصيرية كان الواجب أن تبقى في يد أهل الاختصاص.
صدى مدمر
إن التفهيق ليس مجرد كلام عابر؛ بل هو صدى يطرق جدران الدولة فيرتد خرابًا. فإذا صدر القرار الاقتصادي عن فهم سطحي، كان الصدى انهيارًا للاقتصاد، وارتفاعًا في معدلات البطالة، وصرخات جوع في الأسواق. وإذا جاء القرار الصحي بغير مشورة الأطباء، كان الصدى كارثة إنسانية، وانهيارًا للمنظومة الصحية، وتفشيًا للأمراض. وإذا كان القرار العسكري وليد التبجح، تحولت الجيوش إلى استعراض أجوف، وتلاشت قدراتها ساعة الحاجة. ذلك أن الصدى هنا ليس رجعًا للأصوات، بل رجعًا للخراب نفسه.
لماذا يُصدَّقون؟
الناس ينجذبون إليهم لا لحكمتهم، بل لثرثرتهم وادعاءاتهم الزائفة. الإعلام يضخّم صورتهم، والكرسي يزين لهم مقامهم، فيغدو التفهيق علمًا، والادعاء خبرة. وهكذا تتكرس الظاهرة: الجهل يُصفَّق له، والعلم يُقصى.
فصل السلطات
إن مواجهة هذه الظاهرة لا تكون بالشعارات وحدها، بل بتكريس مبدأ فصل السلطات، وهو ما يعني أن إدارة الدولة لا تقوم على انفراد الحاكم بالقرار، بل على توزيع المهام بين مؤسسات متخصصة، كل منها يستند إلى الخبرة والمعرفة. فكما أن الطبيب وحده يداوي، والمهندس وحده يبني، فإن السياسة لا تُدار إلا بتكامل أهل الاختصاص، لا بادعاء معرفة كل شيء.
خاتمة
إن الواجب لا يقتصر على إقصاء “الأفلاطونيين” من سدة الحكم، بل على مطالبة من نوليه أمرنا بالتواضع، والإقرار بحدود معرفته. فجوهر الحكم الرشيد أن تكون السلطة موزعة، ولكل علمٍ أهله. دور الساسة أن يكونوا قادة ومديرين، يستمعون إلى أهل الخبرة، ويعتمدون على الأدلة والبراهين، لا على زخرف القول. هذه الظاهرة قديمة قدم التاريخ، وقد حذّر منها النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال: “إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربَكم منِّي في الآخرةِ محاسنُكم أخلاقًا وإنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم منِّي في الآخرةِ أساوِئُكم أخلاقًا الثَّرثارونَ المُتَفْيهِقونَ المُتشدِّقونَ”.
فلنحذر إذن من صدى التفهيق، فإنه إن ارتد، لا يعود إلا خرابًا يملأ الأوطان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ بشار مرشد – كاتب وباحث سياسي، بكالوريوس علوم إدارية واقتصادية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
