بقلم الدكتور يونس الديدي*
مع كل إعلان لرئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عن “استئناف الحرب” أو “تحقيق أهدافها”، يبدو الأمر كما لو كان سيزيف يجاهد ليحمل صخرته الثقيلة نحو قمة الجبل، لكنها لا تلبث أن تتدحرج لتهوي عليه من جديد. هذا النهج العبثي، الذي اختاره بإرادته، لا يقود إلا إلى نهاية مدوية، ليس فقط على المستوى السياسي الشخصي له، بل أيضاً للكيان الصهيوني بأسره. فقد تحوّل هذا الكيان إلى ما يشبه قفصاً محشواً بالبارود، مُهدداً بالانفجار في أية لحظة، تحت وطأة الصراعات الداخلية والضغوط الخارجية التي تتراكم يوماً بعد يوم. إنّ تكرار هذه الدورة العقيمة لا يعكس فقط فشلاً استراتيجياً، بل ينذر بانهيار شامل قد يطيح بكل ما بني على أوهام القوة والسيطرة.
حرب بلا أفق: الهروب نحو الجحيم
قرار نتنياهو استئناف المجازر في غزة ليس خطوة نحو تحقيق “نصر”، بل هو محاولة يائسة للهروب إلى الأمام. الإقالة الأخيرة لرئيس جهاز الشاباك، وما تبعها من تصدعات داخلية واستعدادات للتظاهر ضد حكومته، جعلته يلجأ إلى استراتيجيته الوحيدة: إشعال المزيد من الحرائق. لكن هل يستطيع الهروب من الحقيقة؟
لطالما استخدمت الأنظمة الاستعمارية والديكتاتورية “العدو الخارجي” كأداة لتوحيد الصفوف الداخلية، لكن هذه الاستراتيجية لها حدود. يمكن أن تخدع شعباً لفترة، لكنها لن تخدع التاريخ. لقد راهن نتنياهو على أن استمرار الحرب سيمنحه وقتاً إضافياً في الحكم، لكن الزمن لا يعمل لصالحه.
نتنياهو بين سيزيف ونيرون: سياسة الحرق الذاتي
إذا كان نتنياهو قد تورّط في عبثيّة سيزيف، فهو أيضًاً يعيد تمثيل مشهد نيرون وهو يحرق روما، ليس لحماية حكمه، بل بدافع من جنون العظمة والرغبة في تدمير كل شيء قبل رحيله. إنه يعلم أن مستقبله السياسي انتهى، لكن بدلاً من الاعتراف بذلك، يصرّ على دفع المنطقة كلها إلى الهاوية.
لكن ما لا يدركه، أو ربما يدركه جيداً ويحاول تجاهله، هو أنّ المنطقة ليست ساحة مفتوحة لإملاءاته. لقد تغيّرت معادلات القوة، ولم تعد تلك الحقبة التي كان يمكن فيها لإسرائيل أن تشنّ حروبها متى شاءت وتنهيها متى أرادت.
المؤسسات الدولية: سقوط جديد في الاختبار الأخلاقي
قرار نتنياهو باستئناف الإبادة في غزة ليس فقط دليلاً على فشل استراتيجيته، بل هو أيضاً اختبار قاسٍ لمصداقية المؤسسات الدولية. لا يمكن للعالم أن يدّعي الدفاع عن القانون الدولي بينما يتجاهل أكبر جريمة إبادة جماعية تجري في وضح النهار. لقد فشل مجلس الأمن، وتواطأت القوى الكبرى، وانكشفت ازدواجية المعايير التي تحكم هذا النظام العالمي.
لكن السؤال الأهم ليس حول عجز هذه المؤسسات فقط، بل حول ما يجب على شعوب المنطقة أن تفعله. هل ستواصل الاعتماد على قوى دولية لم تعد تمتلك أي شرعية أخلاقية؟ أم أن الوقت قد حان لتغيير جذري في طريقة التفكير والتعامل مع التهديدات؟
الخذلان العربي: متواطئ أم عاجز؟
لولا الخذلان العربي، لما تمكّن الكيان الصهيوني من التمادي بهذا الشكل. المواقف الخجولة، والتصريحات التي لا تتجاوز بيانات الشجب والاستنكار، لم تعد ذات معنى. يجب على المنطقة أن تتحرر من عقدة انتظار “المجتمع الدولي” وأن تدرك أن من لا يملك القوة لا يملك القرار.
من الواضح أن نتنياهو يعتقد أن بإمكانه تكرار سيناريوهات الماضي، لكن ما لا يفهمه هو أن المنطقة باتت أكثر وعياً بمَنْ هو العدو الحقيقي، وأكثر إدراكاً لأهمية بناء استراتيجيات مستقلة لحماية مصالحها. لن يتمكن من خداع الجميع إلى الأبد، ولن يستطيع التلاعب بمعادلات القوة الجديدة التي تتشكل بسرعة.
المرحلة القادمة: سقوط الصخرة
نتنياهو قد يستمر في تكرار المحاولة العبثية نفسها، لكنه في النهاية لن ينجو من سقوط صخرته. لقد انتهت اللعبة، لكنه يرفض الاعتراف بذلك، محاولاً كسب المزيد من الوقت بدماء الأبرياء. لكن حتى الصبر الذي مُنح له من الداخل بدأ ينفد.
لقد دخل نتنياهو مرحلة “الاحتراق الذاتي”، حيث لم يعد أمامه سوى الهروب إلى الكارثة، تماماً كما فعل نيرون. الفرق الوحيد هو أن صخرته ستسقط عليه، ولن يجد من ينقذه منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور يونس الديدي – كاتب صحفي، محاضر وأستاذ جامعي، باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً