بقلم الأستاذ بشار مرشد*
مقدمة
في ليلةٍ من ليالي المكتبة العتيقة، حين يسكن الغبار فوق الرفوف وتخفت أضواء القناديل، دبّت حياةٌ خفيةٌ بين الأدوات. الريشة العتيقة، التي خطّت في زمنٍ غابر مقدمة ابن خلدون، استيقظت من سباتها الطويل، تنفض عنها غبار القرون، كأنها تحمل سرّ التاريخ في حبرها اليابس. وفي الزاوية الأخرى، ارتفعت همهماتٌ صاخبةٌ؛ أقلام التلوين الحديثة، بألوانها الزاهية وأغلفتها اللامعة، تتباهى بأنها سيدة العصر وزينة الورق.
التقت الذاكرة بالتزيين، والعمق بالبريق، لتدور بينهما مناظرةٌ لا تُشبه سائر الحوارات: من له الحق أن يقود الكلمة؟ أهي الريشة التي اعتادت أن تجرّد الواقع من زخارفه وتكشف علله، أم أقلام التلوين التي تحب أن تُغطي القبح بألوانٍ ساحرةٍ تُرضي العيون وتخدع العقول؟
الحوار
الريشة:
“لقد خططتُ كلمات ابن خلدون عن العمران والدولة والعصبية. كنتُ أكتب ليُكشف الواقع كما هو، لا كما يحب السلاطين أن يظهر. أنا جُبلتُ على الحفر في الجذور، لا على تزيين السطوح.”
أقلام التلوين:
“يا ريشة الماضي، نحن أبناء الحداثة! نمنح الأشياء بريقًا وألوانًا، نغطي القبح بجمالٍ زائفٍ، نجعل الخراب يبدو لوحةً مشرقةً. الناس يحبون الزينة أكثر من الحقيقة.”
الريشة:
“لكنكم تخدعون العيون. الحقيقة لا تُجمّل، تُفهم. إن لم تكشفوا للناس عللهم، فكيف سيعالجونها؟ من يزين وجه المريض لا يشفيه، بل يرسله إلى قبره بابتسامةٍ مصطنعةٍ.”
أقلام التلوين:
“ربما نحن نعلم ذلك… لكننا نُستأجر. من يدفع لنا هو من يحدد ما نلوّن. لسنا أحرارًا، نحن أدواتٌ بين أيدي من يملك السوق.”
الريشة:
“إذًا أنتم لستم مثقفين، بل صُنَّاع ديكورٍ للسلطة. المثقف الحقيقي قد يصمت إذا عجز، لكنه لا يزوّر. وأنتم تزوّرون بألوانكم كل يوم.”
قلم صغير (بتردد):
“ولكن… ربما نقدر أن نلوّن الحقيقة لا أن نغطيها. ألسنا أدوات يمكن أن نرسم بها وعيًا جديدًا؟ ربما علينا أن نتمرّد على الأوامر ونصير في صفك، أيتها الريشة.”
الريشة:
“حينها فقط، تصبحون جزءًا من المقدمة القادمة، لا من مسرح الزينة الزائل.”
القلم الصغير (يتسائل مستفهماً):
“أيها الحكيم، نحن تائهون بسبب ما تركه لنا آباؤنا، فهل تنقذنا بنصيحتك؟ هل الإصلاح يأتي من الأعلى أم من الأسفل؟”
الريشة (خاتمةً الحوار):
“يا صغيري، الإصلاح لا يأتي من الأعلى وحده، فهو طفرةٌ نادرةٌ قد تظهر بين الناس، ولا ينجو إلا إذا وُجدت أرضيةٌ صالحة، ولا يأتي من الأسفل وحده، فهو بطيءٌ، لكنه أصل كل تغييرٍ حقيقيٍّ. من يريد أن يكتب الحقيقة، فليزرع جذوره أولًا، فالأصل هو القاعدة، والطفرة من الأعلى ليست إلا فرصة، لا ضمانة. فلا تكن مزوّرًا، وكن وعيًا قبل أن تكون حركة، فإن كل إصلاحٍ يبدأ من منابر صغيرة قبل أن يصبح نهرًا جاريًا.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ بشار مرشد – كاتب وباحث سياسي، بكالوريوس علوم إدارية واقتصادية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
