بقلم الأستاذ كمال زكارنة*
ما عجز عنه الاحتلال منذ عام 1967 وحتى يومنا هذا في ترحيل الشعب الفلسطيني من وطنه، تتكفّل به الظروف الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والأمنيّة، التي يفرضها الحصار الظّالم على قطاع غزة، الذي حوّله الاحتلال إلى سجن كبير تضيق مساحته على أهله الذين يتكاثرون، ولا يجدون فرص العمل التي تؤمّن لهم أبسط متطلبات الحياة.
أكثر من مليوني نسمة في قطاع غزة يعيشون على مساعدات من الأونروا بصفتهم لاجئين، وأصبحت دول أخرى تتحكّم في لقمة عيشهم فوق مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، وهي الأكثر كثافةً سكانيةً على وجه الأرض، يحيط بها الاحتلال والبحر، ولا موارد غير الزراعة وبعض الصناعات الخفيفة، ويمنع أهل غزة من استيراد ما يلزمهم من مواد تلزمهم لزراعاتهم وصناعاتهم وحياتهم، كما يعتمدون على صيد الأسماك الذي تحدّد مساحة صيده سلطات الاحتلال.
لم يعرف العالم حصاراً يشبه حصار قطاع غزة، وكأنّ غضب البشرية جمعاء مكتوب له أن ينصبّ على أرض غزة الضيّقة، التي أنهكتها ملايين الأطنان من قنابل وصواريخ وقذائف الاحتلال والتي حصدت أرواح آلاف الشهداء، وأعاقت جسدياً عشرات الآلاف من سكان القطاع، ودمّرت مئات آلاف المنازل، وقطعت أرزاق المواطنين بعد تدمير مؤسسات إنتاجية لهم وأراضيهم ومحاصيلهم الزراعية.
كل هذه الظروف المستمرة منذ سنوات طويلة، دفعت شباب غزة الذين أحبّوا بلدهم حتى التضحية بالأرواح دفاعاً عنها ضد الاحتلال، دفعت الآلاف منهم للتفكير بالهجرة والبحث عن ملاذ أو بلاد أخرى قد تؤمّن لهم فرصاً انتاجية يستطيعون العيش الكريم منها هم وعائلاتهم في قطاع غزة.
وأجبرتهم على خوض غمار المخاطر والمغامرات والتجارب المريرة ومنها القاتلة، في البر والبحر، بحثاً عن لقمة العيش بكرامة وشرف.
يهاجر شباب غزة بحثاً عن العيش الكريم وتحدّياً لحصار الاحتلال، لكنهم لن يتركوا وطنهم ولن ينسَوه، بل سيعودون إليه أعزاء أغنياء علماء خبراء قادرين منتجين كرماء.
تعلّم الفلسطيني من تجارب الماضي، وتراه يتشبّث بأرضه ينام فوق حطام منزله، الذي يهدمه المحتل لإجباره على الرحيل، لكنه يرفض التّهجير ويختار الموت على حياة الذل والإذلال في الشتات ويبقى مزروعاً في وطنه فلسطين.
لكن عندما يشتدّ الحصار ويضيق الخناق، يضطر الفلسطيني للبحث عن مصدر رزق في أي مكان في العالم، هو يختاره ولا أحد يجبره على ذلك، أي أنه يغادر أرضه بحثاً عن عمل وليس مهاجراً إلى غير رجعة، هذا هو حال أهل غزة الذين يضربون أروع الأمثلة في الصبر والصمود والبطولة في الدفاع عن الأرض والوطن.
= = = = =
*الأستاذ كمال زكارنة – كاتب صحفي ومحلل سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً