بقلم الدكتور يونس الديدي*
تتردّد الأمم، وتتوارى الشعوب خلف حجج الخوف والمصلحة، إلا أنّ الشعب اليمني والمقاومة اليمنية كمنارة للشجاعة والوفاء، ترفع راية القضية الفلسطينية بكل ما أوتيت من عزيمة وإصرار. ليس هذا الموقف مجرّد رد فعل عابر أو استعراض سياسي، بل هو تجسيد عميق لقيم النبل والأخوة التي طالما ميّزت هذا الشعب العريق. في خضمّ الحروب والأزمات التي يعانيها اليمن، يُظهر اليمنيون أنّ التضامن الحقيقي لا يعرف حدوداً، وأن الإسناد للمظلوم قد يكون أقوى سلاح في وجه الظالم.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، لم تكتفِ الجبهة اليمنية بالبيانات الشجبية أو الخطابات الجوفاء التي اعتادت عليها بعض الأنظمة العربية. بل اختارت أن تتحرك بجرأة غير مسبوقة، مستهدفة المصالح الإسرائيلية والأمريكية في البحر الأحمر وخليج عدن، معلنة بذلك أنّ دعم فلسطين ليس مجرّد شعار، بل عمل ميداني يتطلب التضحية والمخاطرة. هذه الخطوة، التي أربكت حسابات القوى الغربية وحلفائها، جعلت من اليمن نموذجاً استثنائياً لجبهة إسناد تجمع بين الذكاء الاستراتيجي والشجاعة الأخلاقية.
درس في الشجاعة للمترددين
في الوقت الذي تتجنب فيه دولٌ كبرى مواجهة الولايات المتحدة أو إسرائيل خوفاً من العواقب الاقتصادية أو العسكرية، يقدم اليمن درساً حيّاً في معنى السيادة الحقيقية. لم تمنعه ظروفه الداخلية الصعبة – الحرب المستمرة منذ عقد، الحصار، والأزمة الإنسانية – من أن يكون صوتاً مدوياً للحق. هذا الموقف يضع الدول التي تدّعي الدفاع عن العدالة، لكنها تكتفي بالصمت أو المواقف الرمزية، أمام مرآة الحقيقة. اليمن، بكل بساطة، يُعلّم العالم أن الشجاعة ليست حكراً على الأقوياء مادياً، بل هي ملك لمن يملكون إرادة لا تَلين.
ما يجعل هذا الدور أكثر إثارة للإعجاب هو السياق الذي يأتي منه. الشعب اليمني، الذي يعاني من واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، لم يقل: “لدينا ما يكفي من المشاكل”، بل قال: “نحن جزء من هذه الأمة، وفلسطين ليست بعيدة عنا”. هذا الشعور بالمسؤولية المشتركة يعكس عمق الروابط الأخوية التي تربط اليمنيين بإخوانهم الفلسطينيين، وهي روابط ليست وليدة اللحظة، بل متجذرة في تاريخ طويل من التضامن.
ذكاء استراتيجي وتأثير عالمي
إنّ الجبهة اليمنية ليست مجرد رمز للشجاعة، بل هي أيضاً مثال على الذكاء الاستراتيجي. باستهداف السفن المرتبطة بإسرائيل أو حلفائها في الممرات البحرية الحيوية، نجح اليمن في إحداث تأثير اقتصادي ملموس، مضطراً الشركات العالمية إلى إعادة تقييم مساراتها التجارية، ومسلّطاً الضوء على القضية الفلسطينية بطريقة لا يمكن تجاهلها. هذا النهج، الذي يجمع بين العمل العسكري المحدود والتأثير السياسي الواسع، يُظهر فهماً عميقاً لموازين القوى في العالم المعاصر.
ما يميز هذا الدور أنه لا يقتصر على ردود الفعل العسكرية. اليمنيون، من خلال خطابات قادتهم ومظاهراتهم الشعبية الضخمة، يؤكدون أن دعمهم لفلسطين هو تعبير عن إرادة جماعية، وليس مجرّد قرار منفرد من النخبة. في شوارع صنعاء وعدن وغيرها، تخرج الحشود حاملة الأعلام الفلسطينية، مردّدة شعارات تؤكد أن القضية ليست مجرّد ملف سياسي، بل جزء من هويتهم الوطنية والإنسانية.
وفاء ليس غريباً على اليمن
هذا النبل والوفاء ليسا جديدين على الشعب اليمني. تاريخه حافل بمواقف الدعم للقضايا العادلة، سواء في مواجهة الاستعمار أم في التضامن مع الشعوب المضطهدة. اليمن، بجغرافيته الوعرة وشعبه الذي لا يعرف الاستسلام، كان دائماً ملاذا للمقاومة وصوتًا للحق. دعم فلسطين اليوم هو امتداد طبيعي لهذا الإرث، وتأكيد على أن اليمنيين لا يفرّقون بين معاناتهم ومعاناة إخوانهم، حتى لو فرّقت بينهم آلاف الأميال.
في عالم تغلب عليه النفعية والخوف، يقدّم اليمن نموذجاً نادراً لما يمكن أن تكون عليه الأمة حين تتمسك بقيمها. إنه ليس مجرد درس للمتردّدين في المنطقة، بل رسالة للعالم أجمع: الشجاعة والوفاء ليست كلمات جوفاء، بل أفعال تُكتب بدماء الشرفاء وتضحياتهم. الجبهة اليمنية، بكل ما تحمله من نبل وذكاء، تظل واحدة من أروع صفحات التضامن في تاريخنا المعاصر، وستبقى كذلك طالما بقيت فلسطين تنزف وشعب اليمن يقاوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور يونس الديدي – كاتب صحفي، محاضر وأستاذ جامعي، باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً