بقلم الأستاذ بشار مرشد*
مقدمة
لم تكن الغطرسة يومًا مجرد صفة أخلاقية للحكام، بل كانت ـ كما وصفها ابن خلدون ـ العلامة الأولى على شيخوخة الدول وتهاوي الإمبراطوريات. اليوم، ونحن نراقب تصرفات دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو وفريقهما السياسي، يتضح كيف يمكن للسياسة الماكيافيلية أن تُمارس على أرض الواقع. الغاية تبرر الوسيلة، يتم تجاهل الإجماع الدولي، ويُستغل القوة بلا ضوابط لتحقيق أهداف سياسية آنية.
ما يبدو للبعض دهاءً سياسيًا ليس سوى مقدمة لارتداد محتمل. فقد بدأت تظهر مؤشرات صحوة على نطاق واسع، تشمل أقاليم أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، إذ تلتفت دول مختلفة إلى خطورة هذا النهج وتدرك أن التبعية المطلقة لم تعد خيارًا مقبولًا. هذه المؤشرات ليست صحوة مكتملة بعد، لكنها باتت أقرب من أي وقت مضى إلى التحقق.
الغطرسة والعربدة السياسية
عندما تُطبّق العنجهية السياسية عمليًا، تصبح الغاية فوق كل اعتبار، وتُبرر الوسائل مهما كانت قاسية أو مخالفة للمعايير الدولية. سياسات ترامب ونتنياهو وفريقهما نموذج حي لذلك: تجاهل الإجماع الدولي، التوسع الاستيطاني، استعمال القوة العسكرية والهيمنة الدبلوماسية بلا حساب، والسعي لتحقيق أهداف آنية على حساب الاستقرار الإقليمي والدولي.
هذا الغرور والطغيان ليست ظاهرة سطحية، بل مؤشر على مرض أعمق في النظام السياسي. هناك غياب للمحاسبة والعدالة، بل تصفية للمعارضة، وإهمال لمبدأ الشفافية.
الجموح السياسي المنفلت بداية للانهيار
ابن خلدون كان واضحًا: كل قوة سياسية تمر بدورة حياة تبدأ بالقوة والعصبية، ثم تتراجع تدريجيًا عندما يسيطر الترف والصلف على الحكم. الغطرسة المفرطة المقرونة بالصلف السياسي تمثل لحظة البداية لسقوط الإمبراطوريات.
التاريخ مليء بالأمثلة: اليونان، روما، فارس، وحتى الاتحاد السوفيتي الحديث شهدت انهيارات جزئية أو كلية بعد مرحلة صلف مفرط وغطرسة غير مراقبة.
مؤشرات الصحوة العالمية
لكن هناك جانبًا آخر لا يمكن تجاهله: مبدأ “رب ضارة نافعة”. انهيار السياسات المكافيلية الخرقاء على نطاق واسع يخلق فرصة لصياغة توازنات جديدة وإعادة ضبط العلاقات الدولية.
الصحوة، وإن لم تتحقق بعد بشكل كامل، بدأت تظهر في أقاليم مختلفة. في أوروبا، تراجع الدعم المطلق. دول الشرق الأوسط وجنوب آسيا بدأت تلتفت إلى مخاطر الانحياز الأعمى للسياسات الأميركية–الإسرائيلية. الصين، من جانبها، تتعامل مع التوترات الإقليمية بحذر.
كل هذه التحركات تعكس بداية وعي جماعي بأن الغطرسة غير المقيدة ليست مجرد تهديد لأعداء الدولة، بل تهديد للهيكل الدولي نفسه.
خلاصة واستشراف المستقبل
المؤشرات التي نراها اليوم ليست انفجارًا مفاجئًا، بل شقوقًا بطيئة في الجدار الذي اعتقدت بعض القوى أنه من حديد. الخطوة التالية، إذا توافرت الإرادة السياسية والشعبية، يمكن أن تتحول هذه الشقوق إلى إجراء مؤسسي ملموس، يحقق إصلاحًا في العلاقات الدولية، ويضع حدًا للسياسات التي تُمارس الغطرسة كاستراتيجية مستمرة.
في نهاية المطاف، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه دائمًا: الغطرسة الماكيافيلية تولد صلفًا سياسيًا، والصلف يسبق الانهيار، والانهيار يفتح المجال لصحوة جديدة. ليس الفجر قد أطل بعد، لكنه أصبح أقرب من أي وقت مضى. وهنا يتحقق مبدأ “رب ضارة نافعة”: الضرر الناتج عن الغطرسة المفرطة قد يصبح الشرارة التي تشعل نهضة أكثر وعيًا وعدلاً على المستوى الدولي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ بشار مرشد – كاتب وباحث سياسي، بكالوريوس علوم إدارية واقتصادية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
