بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
بوحٌ سوسيولوجي وتأملات فكرية ونظرية لمن تعدّى عتبة الخامسة والأربعين وصارت تظهر له جليّاً وأمام عينيه حقبة الستين وما فوق.
لقد صرت هادئاً جداً، لم تعُد تغريني الحياة ولا الناس، أحياناً أحسّ بنفسي وكأنّي وصلت السبعين فعلاً، قد يكون سببها تجارب السنين المثيرة والكثيرة وخصوصاً تلك السيئة منها، تلك التي علّمتني دروساً لا يلقّنها لكَ أحد على مدرّجات الكليات، بل تتعلمها جيداً بين دروب الحياة المتشعّبة.
نعم تظهر لي جليّاً حقبةُ الربع الأخير من الحياة، الذي كان إلى سنين قليلة قبل اليوم، يظهر بعيداً ولا مُفكّر فيه. اليوم يتجلى أمام عينيّ، ويطرح عليّ العديدَ من الأسئلة. سؤالَ الحياة! ومعنى الوجود ومعنى الشباب وصورة الشيخوخة والسطر الأخير قبل الرحيل.
نعم أفكر، كسوسيولوجي وأيضا ككاتب مغمور، يداعب القلم بين الفينة والأخرى، لعله يُحدِث ضجيجاً من حوله، في زمن فوضى اللايقين، أو يرمي بحجرة صغيرة ليحرّك المياه الراكدة قبل أن تصبحَ مستنقعاتٍ متعفنةً، أو يدير حواراً يتساءل عن التفاهةِ والتافهين وكيف صاروا في الصفوف الأمامية لمجتمعات تائهة!
في منتصف العمر، نقف، متسائلين عمّا حققناه وما لم نحققه، ماذا فعلت بنا الدنيا وما فعلنا بها، وكيف يمكننا إدارة ما تبقّى من زمن وجودنا، بشكل يخفف حمل الأعباء عنا، ليس مهماً أن تفكر في تعويض ما ضاع منك في سنوات الشباب، أو تتساءل كيف كنت تتمنى أموراً أن تفعلها ولكنك لم تفعل. لا تندم على أشياء كنتَ تتمنى لو لم تفعلها أو تندم على ما كان يجب أن تفعله ولم تفعله. ما الفائدة!
بل أنا سعيد بكل ما قمت به، فقد كانت أقداري ولا هروبَ منها، وسأجهز نفسي لسنوات جديدة وفترة جديدة وعهد شيخوخة سيقتحم بابي في أيّ لحظة، لكنني عازم أن أعيشه بنفسية الشاب الذي لا يريد أن يغادر أعماقي.
سنوات كثيرة مرت بمرّها وحلوها، ولا ندري كم تبقّى لنا هنا بين الناس، لكن علينا أن نجعلها أياماً جميلة، لأن النضج قد تمكّن منا، وفسح لنا المجال لنرى الحياة بعيون أخرى. في منتصف العمر، لن يتبقى لك الوقت للحقد أو محاسبة أحد أو التطفل على أحد أو محاولة معرفة ما يخبِّئه عنك الآخرون، بالعكس لا تريد معرفة أي شيء لا يخصك، وتكتفي بما لديك وقد لا تبحث عن أصدقاءَ جُددٍ، وترتاح لقهوتك وحيداً وسماع الموسيقى الهادئة وأنت تتأمل الحياة التي أصبحت بالنسبة لك، لا تستحق كل ذلك العناء الذي هلكت نفسك به.
بعد منتصف العمر ستصبح إجاباتك مختصرةً بـ لا، نعم، متى، أين.. لن تدخل في نقاشات عميقة ومهلكة لطاقتك، ستغادرها فوراً، كما تغادر كل المجالس التي لا تُلائمك، ستصبح مُحبّاً أكثر للوِحدة والتأمل، وتكره الصراخ والأماكن المزدحمة، ستذكرك الأيام بأن الكنز الحقيقي في هذه الحياة هو صحتك الجيدة، فهي ثروة، وأن كل تفاصيل الحياة الأخرى لم تعد لها قيمة، ستبحث عن راحة البال وقد تتخلى عن كل شيء في سبيل ذلك، ستبدو مزعجاً للآخرين من حولك، من خلال هدوئِك وتمعّنك وفهمك للأمور، ولانك ستنسى العديد من الأسماء لأنها لم تكن مهمة يوماً بالنسبة لك، لكنك اليوم لم تعد بحاجة إلى أنْ تجاريَ المجتمع في مظاهره الكاذبة، لم يعد هنالك متّسع من الوقت لنكدب على أنفسنا، وقد تصدق مقولة “إننا صرنا كباراً” نعم، ربما هذا هو المقصود، صرنا نبحث عن الأمن والأمان الداخلي، أما تمظهرات الحياة فلم تعد تعنينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبد الله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية والإفريقية في صحيفة الحدث الإفريقي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً