بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
مخطئٌ من يظن أن الإدارة الأمريكية تريد وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أو أن ضميرها قد استيقظ من سباته واستفاق من غفلته، ولم يعد منحازاً كما كان، أو متواطئاً كما عرفنا، أو شريكاً كما ظننّا، وأنها أصبحت إنسانية عاقلة تشعر بالآخرين وتحترمهم، وتعترف بالأعراف والقوانين، وتلتزم العهود والمواثيق، وترفض الظلم وتنشد العدل، وتسعى جادةً ومخلصةً لإنهاء الحرب التي يشنها الكيان الصهيوني على الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس، وتعتبرها حرباً ظالمةً تستهدف حياتهم، وتنتهك سيادتهم، وتنتقص حقوقهم، وتهدد مستقبلهم، وتحرمهم من الحياة الآمنة المستقرة.
ويخطئ كثيراً من يظن أن الإدارة الأمريكية تدعو إلى وقف الحرب كلياً، وإنهاء العمليات الحربية كافة ضد الفلسطينيين، والسماح لهم بالعودة إلى مناطقهم وبيوتهم، واستئناف حياتهم، وفتح طريقَي الشمال والجنوب على طول القطاع، وعدم تهديد حركة المواطنين أو عرقلة انتقالهم، وإعادة إعمار ما دمرته الحرب وخرّبه العدوان، وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية وحياتهم اليومية، والسماح لهم بمباشرة التفكير والحوار الوطني الداخلي المستقل في كيفية إدارة شؤونهم وتنظيم أمور حياتهم، واختيار شكل وهيئة حكومتهم.
الإدارة الأمريكية لا تفكر في الشعب الفلسطيني ولا تعبأ به، ولا يعنيها أبداً ما أصابه وما لحق به، وهي غير باكية أو آسفة على الضحايا الذين يسقطون، واللاجئين الذين امتلأت بهم الشوارع والمدارس ومقار الإيواء، ولا يحرك ضميرَها أطفالُهم الرضع والخدّج والصغار، الذين يقتلون قصفاً أو تحت الأنقاض، أو جوعاً وعجزاً عن العلاج، وهي لا تأسف لجوعهم وعطشهم، ولا لتدمير بيوتهم ومؤسساتهم، ونسف مدارسهم وجامعاتهم، وأسواقهم ومساجدهم، وهي لا تشعر بتأنيب ضميرٍ لتدمير مستشفياتهم، وحرمانهم من العلاج والدواء، وفرض الحصار المشدد عليهم ليموتوا خنقاً وجوعاً وعطشاً ومرضاً وبرداً وقهراً.
الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم الكيان الصهيوني في عدوانه على قطاع غزة، بكل الوسائل السياسية والعسكرية والأمنية والمادية والإعلامية وغيرها، تشاركه في الجريمه، وتتحمل معه كامل المسؤولية، وقد هبت لنجدته منذ الساعات الأولى لصبيحة يوم السابع من أكتوبر، ليقينها أن الكيان قد اهتزت أركانه، وتصدع بنيانه، وتفككت جبهته الداخلية، وأصبح آيلاً للسقوط والانهيار، فغدا في أَمَسِّ الحاجة لقوةٍ تحميه، ودولةٍ تدعمه، وحلفٍ يسانده، قبل أن تنهار المنظومة الأمريكية وتسقط بانهيار الكيان، إذ أنه عمدة نفوذها في المنطقة وعمادها، وناظم وجودها فيها ومبرر بقائه، وركيزته التي تبني عليه استراتيجيتها في المنطقة.
الحقيقة التي يجب ألّا تغيب عن أذهاننا، أن الإدارة الأمريكية لا تريد للكيان الصهيوني أن يسقط وينهار، أو يضعف وينكسر، ولا أن تتراجع قدرته ويفقد هيبته، ويخسر تفوقه ويتلاشى نفوذه، فهذا يعني انتصار المقاومة ومحورها، وعلو رايتها وسيادة فكرها، ونجاح سياستها وتوسع قوتها، وانتقال تجربتها وتكرار فعلتها، وتشجيع الآخرين مثلها وتضامنهم جميعاً معها، وهو ما لا تريده الإدارة الأمريكية أبداً، وما لا تريده أنظمةٌ أخرى كثيرة، دولية وإقليمية، ممن يستشعرون الخطر من انتصار المقاومة الفلسطينية، وثباتها أمام الغارات الإسرائيلية الأمريكية المهولة، فقد يهدد انتصارها أنظمتها الحاكمة، ويعرضها للفوضى أو الثورة عليها من جديد.
لكن الإدارة الأمريكية باتت محرجة وقلقة من ضراوة الغارات الإسرائيلية، وحجم الدمار وعدد الضحايا، وبشاعة الصور المتناقلة عبر الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تفضح الممارسات الإسرائيلية، وتكشف عن جرائمها ضد الإنسانية، ومجازرها الدموية وعمليات الإبادة الجماعية لشعبٍ بأكمله.
وزاد في حرجها الحراكُ الشعبي الأمريكي والدولي الواسع المناهض للحرب، والرافض للسياسة الأمريكية المؤيدة لها والداعمة للكيان، وبروز أصوات مؤثرة في مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين، تدين سياسة الرئيس بايدن، وتدعوه لمراجعة قراراته وتغيير سياساته، فضلاً عن دخول محكمة العدل الدولية على مسار الحرب، والتي قد يكون قرارها الذي سيصدر اليوم الجمعة، نقطة تحول وعلامةً فارقةً في مسلسل العدوان والجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
وأمام عجز الكيان الصهيوني عن تحقيق النصر وإنجاز الأهداف التي أعلن عنها، وأكد عليها وجدَّدَها وغَيَّرَها أكثر من مرةٍ، أمام صمود المقاومة الفلسطينية واستبسالها، وثباتها على الأرض وقدرتها الفذة في الميدان، فإن الإدارة الأمريكية تخطط للخروج من مأزقها الأخلاقي والإنساني، وتجاوز تحدياتها الداخلية والخارجية، وذلك من خلال إصرارها على مواصلة الحرب وتشديد الضغط وعدم التراجع، لكن على أن تأخذ الحرب شكلاً آخر وأسلوباً مختلفاً، فتنتقل إلى المرحلة الثالثة التي بشرت بها ودعت الحكومة الإسرائيلية للقيام بها، والتي تقوم على تحسين الصورة الخارجية، وإدخال المؤن والمساعدات، والتخفيف عن السكان، في الوقت الذي تتركز فيه العمليات وتتكثف، ضد أهدافٍ معينة وشخصياتٍ محددة، ومقارٍّ ومراكزَ وقواعدَ خاصة بالمقاومة، وهذا يعني أنها تريد تنظيم العمليات الحربية وإدارتها، وتوجيهها وترشيدها، بما يؤكد استمرار الحرب وإطالتها، وإشراك دول العالم والإقليم فيها، وصولاً إلى تحقيق الأهداف التي تريدها، وهي بقاء الكيان وهزيمة المقاومة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً