بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
ليس منا في بلادنا العربية، من لم يشكُ يوماً خلال محاولته إنجاز معاملةٍ رسميةٍ أو استصدار وثيقةٍ أو استخراج بدل فاقد أو تصديق صورٍ وشهادات، أو غير ذلك من المعاملات الكثيرة التي تقوم بها مؤسسات الدولة حصراً، ولا يمكن إصدارها من أي جهةٍ أخرى بديلةٍ، من سوء المعاملة وطول الانتظار، ورعونة الموظفين وإهمال المكلفين، وفُحش الإدارة وفجاجة العاملين، وتعالي المسؤولين وخشبيّة القوانين، وتعطيل الأولوية وغياب الشفافية، وتفضيل المحسوبية وتقديم العلاقات الشخصية، واعتماد الرشاوى ورفض الشكاوى.
لينجز المواطنون معاملاتهم لدى دوائر الدولة الرسمية في بلادنا العربية يجب عليهم أن يذهبوا إليها مبكرين، وأن يقفوا في طوابيرَ طويلة لا تتحرك أحياناً إلا بصعوبة، ولا يقل أعداد المصطفين فيها إلا قليلاً، إذ يتجاوزها المقربون والمسؤولون، والمشاهير والمعروفون، والموصى عليهم والمحظوظون بوساطتهم، واللافتات للنظر بجمالهن أو بثيابهن، والمثيرات للجدل بزينتهن أو أشكالهن، وليس من المستغرب أن يقوم موظفٌ أو عاملٌ باستخدام العصا وضرب المواطنين بحجة تنظيم الطوابير، ولا يترددون أحياناً في إخراج بعضهم من الطابور وحرمانهم من حقهم ودورهم الذي عانوا للوصول إليه كثيراً.
أما عامة المواطنين من الرجال والنساء، سواء أكانوا رجالاً مسنين أو شباناً ويافعين، فلا يأبه بهم أحد، ولا يثير انتباه المسؤولين منهم شيخٌ عجوزٌ أو مقعدٌ مريضٌ أو امرأة حامل، أو أخرى تحمل طفلها الصغير الباكي، فأولئك جميعاً من العامة الدّهماء ممن لا يدفعون ولا يرشون، ولا يملكون ما يقدمون، ومعهم فئةٌ غير قليلةٍ من خيرة المواطنين الذين يعتبرون الرشاوى عيباً والوساطة اعتداءً على حقوق الآخرين، ورغم هندامهم الأنيق، وهيئاتهم المحترمة، وسمتهم المؤدب، ولسانهم اللّبق، فإن هذه المناقبية الأخلاقية لا تشفع لهم، ولا تؤهلهم لتجاوز الدور أو التعجيل في إتمام معاملاتهم وتسوية ملفاتهم، فيضطرون كغيرهم إلى انتظار دورهم الذي يتأخر غالباً.
أما السماسرة والأذنة والحراس، وصغار العاملين في الدوائر والمؤسسات، والحجّاب والسائقون وأمثالهم، الذين يفهمون طبيعة العمل ويعرفون النظام المعمول به وأسرار المكاتب المغلقة والمفاتيح السحرية لكل منها، فهم يصولون ويجولون بين الطوابير، يقتنصون الزبائن ويصطادون الفرائس، ويبحثون عن كل راغبٍ في الدفع وجاهزٍ لأداء الثمن، فيأخذون أوراقهم وينجزونها بأنفسهم، وهذا يكلف أصحابها كلفةً أكثر، أو يسهلون دخولهم إلى الغرف المغلقة والمكاتب الموصدة، بعد أن يحصلوا منهم على “المعلوم”، أو يخبروهم عن قيمته عند الدخول، وإلا فإن عليهم المكوث والانتظار طويلاً حتى يصلهم الدور وتسوى معاملتهم وتنجز، أو يردها المسؤولون لمزاجهم المتعكر أو لخلقهم السيء بحجة الأوراق الناقصة والمعاملة غير المكتملة.
غالباً لا ينجح المراجعون في إتمام أو إنجاز معاملتهم في اليوم نفسه، إذ يتطلب إنجازها التوقيع من أكثر من مكتبٍ وديوان، والمصادقة عليها من أكثر من مديرٍ ومسؤول، وأحياناً لا يجد المراجعون والمستدعون طوابع بريدية، أو أوراق رسمية يسجلون عليها طلباتهم، كما لا يجدون آلات تصوير واستنساخٍ، إلا عند بعض الموظفين، حيث تكون الأسعار عالية، رغم أن الدقة تكون قليلة، إلا أنه لا سبيل أمام المستدعين وأصحاب الحاجات إلا التصوير عندهم، والخضوع لأسعارهم، وشراء الطوابع وكتابة الطلبات عندهم، وإلا فإن الموظفين والمسؤولين يرفضون طلباتهم، ويجبرونهم على العودة من جديد، كونهم أصلاً شركاء مع أصحاب الأكشاك والدكاكين المجاورة.
يصادف المراجعين لدى الدوائر الرسمية العربية حوادثُ غريبةٌ وقصصٌ عجيبة، كأن يجد المواطن أن جنسه المثبت في السجلات عكس حقيقته، وحينها عليه أن يثبت لدى الجهات المختصة جنسه الحقيقي، أو أن يكون تاريخ ميلاده المثبت في السجلات الرسمية قبل قرنٍ من الزمان، أو أنه ميتٌ وليس حياً، أو أن يقوم الموظف بتمزيق الملفات وإتلافها، وغير ذلك من الحوادث التي تفرض على المواطن أن يعيد إصدار كل أوراقه الرسمية من جديدٍ، وأن يحمّل نفسه كل التكاليف المترتبة على خطأ الموظفين الذين ثبّتوا في سجلاتهم بياناتٍ خاطئةً.
ليس فيما قدمت وعرضت أي مبالغة أو تهويل، بل هو أقل بكثيرٍ من حقيقة ما يعانيه المواطن العربي لدى دوائر الدولة الرسمية المختلفة، ولعلنا جميعاً مررنا بواحدة على الأقل من هذه الحالات، فعانينا وقاسينا، وتذمرنا وغضبنا، وشكونا واعترضنا، ولكن أحداً لا يسمع الشكوى أو يأبه بالاعتراض، أو يطالب بالمراجعة والمعالجة، أو التحقيق والمساءلة، وكأننا قد جبلنا على هذا الواقع المزري البغيض، الذي يستنزف قوانا ويضيّع أوقاتنا، ويهدر حقوقنا ويمتهن كراماتنا، ورضينا به قدراً، أو سكتنا عنه جبراً، وتميزنا به عن غيرنا من الشعوب لكن لجهة الجهالة والدونيّة، والتخلف والرجعيّة.
= = = = =
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً