إعداد الدكتور أحمد سيد داود*
لعلّ إساءة معاملة الأطفال هي واحدة من أكثر القضايا الاجتماعية والنفسية تعقيداً وتأثيراً على المجتمعات حول العالم. تُعرّف إساءة معاملة الأطفال بأنها أيّ فعل أو تقصير مُتعمَّد من قبل الوالدين أو مقدّمي الرعاية أو أي شخص آخر يتسبب في أذىً جسدي أو نفسي أو جنسي للطفل، أو يعرضه لخطر الإصابة بهذا الأذى. تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن 6 من كل 10 أطفال دون سن الخامسة يتعرضون للعقوبة البدنية أو العنف النفسي بانتظام من قبل الوالدين ومقدمي الرعاية. هذه الإحصاءات المروِّعة تدفعنا إلى فهمٍ أعمقَ لسيكولوجيا الإساءة للأطفال وآليات حمايتهم الفعالة.
أنواع الإساءة للأطفال وأشكالها
1.الإساءة الجسدية
تشمل الإساءة الجسدية أي فعل يسبب أذىً جسدياً للطفل مثل الضرب، الركل، الحرق، الهزّ العنيف الذي قد يؤدي إلى متلازمة هزّ الرضيع، والتي يمكن أن تسبب نزيفاً دماغياً وإعاقاتٍ دائمة. في بعض الثقافات، يتمّ تبرير هذه الممارسات تحت مسمى “التأديب”، لكن الأبحاث تُظهر أنّ العقاب الجسدي يرتبط بزيادة المشكلات السلوكية والعقلية لدى الأطفال.
2.الإساءة الجنسية
تشمل الإساءة الجنسية أي نشاط جنسي مع طفل، سواءٌ أكان ذلك عبر الاتصال الجسدي أم غير الاتصال؛ مثل تعريض الطفل للمواد الإباحية أو تصويره بطريقة جنسية. وفقاً لليونيسف، فإن 1 من كل 8 أطفال في العالم يتعرّض للإساءة الجنسية قبل سن 18. غالباً ما يكون المعتدي شخصاً معروفاً للطفل وموثوقاً به من قبل الأسرة، مما يجعل الاكتشاف والتبليغ أكثر صعوبة.
3.الإساءة العاطفية والنفسية
تتضمّن الإساءة العاطفية أفعالاً مثل التقليل من شأن الطفل، الإهانة المستمرة، التهديد، العزل، أو رفض تلبية احتياجاته العاطفية. هذه الإساءة قد تكون الأصعب في الاكتشاف لأن آثارها غير مرئية، لكن عواقبها طويلة المدى قد تكون مدمّرة لنمو الطفل النفسي والاجتماعي.
4.الإهمال
الإهمال هو فشل مُقدِّم الرعاية في توفير الاحتياجات الأساسية للطفل مثل الغذاء، المأوى، الرعاية الصحية، التعليم، أو الإشراف المناسب. الإهمال المزمن يمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة وحتى الموت، وهو أكثر أشكال سوء معاملة الأطفال انتشاراً في بعض البلدان.
سيكولوجيا المعتدي: دوافع الإساءة للأطفال
إنّ فهم دوافع وسيكولوجيا المعتدين يساعد في تطوير استراتيجيات وقائية أكثر فعالية. تشمل العوامل التي قد تزيد من خطر إساءة معاملة الطفل:

1.التاريخ الشخصي للإساءة
الأفراد الذين تعرضوا للإساءة في طفولتهم أكثر عُرضةً لأن يصبحوا معتدين، حيث يتعلمون أنّ العنف هو وسيلة مقبولة للتعامل مع المشاكل. هذه الدورة المتكررة من العنف تُعرف بـ “دورة العنف بين الأجيال”.
2.الاضطرابات النفسية والعقلية
المعاناة من الاكتئاب، اضطراب ما بعد الصدمة، أو اضطرابات الشخصية يمكن أن تزيد من خطر إساءة معاملة الأطفال. بعض المعتدين يعانون من اضطرابات في السيطرة على الانفعالات أو لديهم صعوبة في تنظيم مشاعرهم.
3.ضغوط الحياة
المشاكل المالية، البطالة، العنف الأسري، أو العزلة الاجتماعية يمكن أن تزيد من التوتر وتقلل من قدرة الوالدين على التعامل مع أطفالهم بشكل إيجابي.
4.المعتقدات الخاطئة حول التربية
بعض المعتدين لديهم توقعات غير واقعية عن نمو الأطفال أو يعتقدون أن العقاب الجسدي ضروري للتربية. في بعض الثقافات، قد يُنظر إلى العنف كوسيلة مقبولة لتعليم الأطفال الطاعة والاحترام.
سيكولوجيا الطفل المعتدى عليه: الآثار النفسية للإساءة
1.الآثار قصيرة المدى
الأطفال المعتدى عليهم قد يعانون من الخوف، القلق، الاكتئاب، الانسحاب الاجتماعي، صعوبات في النوم، أو تراجع في الأداء المدرسي. بعض الأطفال قد يصبحون عدوانيين أو يطوّرون سلوكيات تخريبية كوسيلة للتعامل مع الصدمة.

2.الآثار طويلة المدى
على المدى البعيد، يمكن أن تؤدي الإساءة في الطفولة إلى زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب والقلق واضطرابات الشخصية و صعوبات في تكوين العلاقات والحفاظ عليها و مشاكل في احترام الذات والثقة بالنفس وزيادة احتمال الانخراط في سلوكيات خطيرة مثل تعاطي المخدرات أو إيذاء النفس و صعوبات في الأداء الأكاديمي والمهني وزيادة خطر الإصابة بأمراض جسدية مزمنة مثل أمراض القلب والسكري.
3.اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)
كثير من الأطفال الذين يتعرضون للإساءة الشديدة، خاصة الجنسية أو الجسدية، يطورون أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، والتي قد تشمل ذكريات الماضي، الكوابيس، التجنب، وفرط اليقظة.
استراتيجيات حماية الأطفال من الإساءة
1.التوعية والتعليم
تعليم الأطفال عن حقوقهم الجسدية والعاطفية هو خط الدفاع الأول. يجب تعليم الأطفال أنّ لأجسادهم حدوداً ولا يحق لأحد انتهاكها كذلك الفرق بين اللمسات الجيدة والسيئة ، وتمكينهم من كيفية قول “لا” للسلوكيات غير المريحة وأهمية إخبار شخص بالغ موثوق به عن أي موقف مزعج.
2.تعزيز البيئة الأسرية الداعمة
العلاقات الأسرية المستقرة والداعمة هي عامل حماية قوي ضد الإساءة، يمكن تعزيز ذلك من خلال توفير برامج دعم الوالدين وتعليم مهارات التربية الإيجابية وتشجيع التواصل المفتوح بين الأطفال والوالدين وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للأسر التي تعاني من ضغوط الحياة.
3.التدخلات المجتمعية والمؤسسية
يلعب المجتمع دوراً حاسماً في حماية الأطفال من خلال إنشاء خطوط ساخنة للإبلاغ عن الإساءة وتدريب المعلمين والعاملين في الرعاية الصحية على التعرف على علامات الإساءة ومن ثم تطوير برامج الرعاية البديلة للأطفال المعرضين للخطر، وتعزيز القوانين التي تحظر العقاب الجسدي في جميع الأماكن.
4.السياسات والأنظمة القانونية
يجب أن تعتمد الحماية الفعالة للأطفال على وجود أنظمة قانونية قوية تشمل: قوانين واضحة تحظر جميع أشكال الإساءة للأطفال، وتفعيل آليات فعالة للإبلاغ عن حالات الإساءة واعتماد أنظمة عدالة صديقة للطفل للتحقيق في البلاغات، وتقديم خدمات الدعم والعلاج للأطفال الضحايا.
5.تمكين الأطفال
تمكين الأطفال من خلال تعزيز ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم على التعبير عن مشاعرهم وتعليمهم مهارات حل المشكلات والتفكير النقدي وتوفير فرص لهم للمشاركة في صنع القرارات التي تؤثر عليهم وتعزيز شبكات الدعم الاجتماعية بين الأقران.
دور الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين
للأخصائيين النفسيين والاجتماعيين دورٌ محوريٌّ في تقييم الحالات المشتبه في تعرّضها للإساءة وتقديم العلاج النفسي للأطفال الضحايا لمساعدتهم على التعافي من الصدمة والعمل مع العائلات لتحسين ديناميكيات العلاقات الأسرية وتقديم الشهادات الخبيرة في المحاكم عند الحاجة وتصميم وتنفيذ برامج الوقاية والتوعية المجتمعية.
حماية الأطفال من الإساءة ليست مسؤولية فردية، بل هي التزام جماعي يتطلب تعاون الأسر، المدارس، المؤسسات الدينية، الحكومات، والمجتمع المدني. من خلال الجمع بين التوعية، التدخل المبكر، الدعم النفسي، والأنظمة القانونية الفعالة، يمكننا كسر دورة العنف وإتاحة الفرصة لكل طفل للنمو في بيئة آمنة وداعمة.
كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”. فلنعمل معاً لضمان أن كل طفل يحصل على الحق في الطفولة الآمنة التي يستحقها، لأن حماية الأطفال اليوم هي استثمار في مستقبل أكثر إشراقاً للجميع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور أحمد سيد داود – باحث في قضايا التعليم
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً