بقلم الأستاذة نسيبة شيتور*
يشهد النظام الدولي خلال العقدين الأخيرين تحولًا نوعيًا في طبيعة الصراعات، حيث أصبحت أدوات الحرب الإعلامية الحديثة جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيات النفوذ والسيطرة، لم تعد المعارك تدار فقط عبر المواجهات التقليدية، بل عبر السيطرة على تدفقات المعلومات، وإعادة تشكيل الإدراك العام. ضمن هذا الإطار برزت الخوارزميات، تقنيات التلاعب الرقمي بالصورة والفيديو، والجيوش الإلكترونية كأدوات مركزية في تنفيذ أهداف الحرب الناعمة وتحقيق المكاسب السياسية دون تكلفة المواجهة العسكرية المباشرة.
أولًا: الخوارزميات وتوجيه السلوك الجمعي
تُعتبر الخوارزميات الرقمية، وخاصة تلك المستخدمة في منصات التواصل الاجتماعي الكبرى، أداة استراتيجية لإعادة هندسة الرأي العام، من خلال تحليل البيانات الضخمة، أصبحت هذه المنصات قادرة على تخصيص المحتوى بما يعزز التوجهات القائمة أو يخلق توجهات جديدة تخدم مصالح سياسية أو اقتصادية محددة، وقد أكدت دراسة نشرها مركز PEW RESEARCH CENTER أنه في انتخابات 2016 الأمريكية، لعبت الخوارزميات دورًا محوريًا في تشكيل اتجاهات الناخبين من خلال “التسويق السياسي الدقيق” (Microtargeting) .
خلال جائحة كوفيد-19، كشفت تقارير متخصصة أن الخوارزميات ساهمت في تسريع انتشار المعلومات المضللة، الأمر الذي أدى إلى انقسامات حادة داخل المجتمعات حول قضايا الصحة العامة، وأثر بشكل ملموس على استجابات الدول للأزمة. هذه التجربة أبرزت كيف يمكن للخوارزميات أن تتحول إلى أدوات صراع معلوماتي خفي.
ثانيًا: التلاعب بالصورة والفيديو كآلية لإنتاج الواقع البديل
مع التقدم في تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبحت القدرة على تعديل الصور والفيديوهات بشكل يصعب كشفه من أهم ملامح الحروب الإعلامية الجديدة. أتاحت تقنيات مثل “التزييف العميق” إمكانية إنتاج محتوى سمعي بصري زائف يُستخدم لتشويه الحقائق أو خلق روايات مضادة، وقد أظهرت دراسة نشرها معهد أكسفورد للإنترنت أن استخدام التزييف العميق في الحملات السياسية يشهد نموًا كبيرًا، ما يهدد نزاهة الانتخابات الديمقراطية.
في أحداث اقتحام الكابيتول الأمريكي عام 2021، لعبت الفيديوهات المجتزأة والمعدلة دورًا في ترسيخ سرديات متناقضة حول شرعية الانتخابات، وهو ما ساهم في تأجيج حالة الاستقطاب الداخلي. وقد أظهرت هذه الواقعة أن السيطرة على البعد البصري للمعلومة باتت أداة فاعلة لإعادة صياغة السرديات السياسية والاجتماعية
ثالثًا: الجيوش الإلكترونية كأدوات للحرب غير المتناظرة
ثالثًا: الجيوش الإلكترونية كأدوات للحرب غير المتناظرة
تُعد الجيوش الإلكترونية أحد أبرز مظاهر الحرب غير المتناظرة الحديثة، فهذه الشبكات، التي تجمع بين الحسابات الوهمية والروبوتات الرقمية (Bots)، تُستخدم لتنفيذ حملات تضليل ممنهجة، وشن حروب نفسية على المجتمعات المستهدفة.
وقد أكدت دراسة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية Center for Strategic and International
Studies (CSIS) أن الجيوش الإلكترونية قد أصبحت أحد أدوات الضغط السياسية الرئيسية في العديد من النزاعات الإقليمية، لا سيما التوترات بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط. إذ أظهرت الاستخدام المكثف للجيوش الإلكترونية في إطار حروب المعلومات، فقد تم تسجيل حملات منظمة تهدف إلى التأثير على الرأي العام الإقليمي والعالمي، من خلال إغراق المنصات الرقمية بسرديات متضاربة، وبث الشكوك حول مؤسسات الدولة والسياسات العامة.
رابعاً: المآلات الاستراتيجية والتحديات المستقبلية
تعكس الأدوات الحديثة للحرب الإعلامية تحولًا بنيويًا في مفهوم القوة، حيث بات التأثير على الإدراك والوعي الجماعي أهم من السيطرة المادية التقليدية، و في ظل هذا الواقع، تواجه الدول تحديات متزايدة تتطلب:
-بناء منظومات رصد وتحليل للمعلومات الرقمية.
-تعزيز الوعي المجتمعي بمخاطر التضليل الإعلامي.
-تطوير تشريعات تحاصر الاستخدام المسيء للذكاء الاصطناعي في الإعلام.
-الاستثمار في التكنولوجيا المضادة للكشف عن التزييف والتلاعب الرقمي.
إن استراتيجيات المواجهة تتطلب دمج البعد الإعلامي ضمن أطر الأمن القومي الشامل، مع الاعتراف بأن المعركة على العقول قد تكون الحاسمة في تحديد مآلات الصراعات المستقبلية.
ختاماً، تُظهر تطورات البيئة الإعلامية الحديثة أن السيطرة على المعلومات لم تعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية للدول الساعية للحفاظ على استقرارها الداخلي ومكانتها الدولية في عالم تهيمن عليه السرعة المعلوماتية والسيولة الإدراكية، تصبح القدرة على إدارة الحرب الإعلامية الحديثة ركيزة أساسية في بناء النفوذ وضمان الأمن الوطني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذة نسيبة شيتور – باحثة في الاتصال السياسي.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً