إعداد الأستاذة ريما ملحم*
أُقيم هذا المنتدى برعاية وإشراف مؤسسة BRC العلمية الدولية وجامعاتٍ عراقيةٍ وعربيةٍ رصينة، وبالتعاون مع مركز بلير للبحث العلمي (تركيا – بريطانيا) ومركز JSM للدراسات والأبحاث (روسيا). أقيم ونُظِّم عبر فرع النساء والمخدرات بتاريخ 30 سبتمبر 2025.
تولّت إدارة المنتدى الدكتورة نور الكبيسي، رئيسة فرع مؤسسة BRC العلمية الدولية (الأردن).

افتتح المنتدى الدكتور ميثاق بيات الضيفي، رئيس مؤسسة BRC العلمية الدولية، بقوله:
“عندما كنا أطفالًا في المدرسة، كان الزملاء يقولون: لماذا لا تُجرِّب؟ دَخِّن معنا! كان الدخان آنذاك معنى الرجولة، والآن تطوّر مفهوم الرجولة ليصبح تناول المخدر للفتيات والفتيان البالغين ليُكمل ما يُقال عنه بريستيج.
حتى إن لم تكن تُريد، يُقال لك: جرِّب فقط! وكأنها تجربة بلا عواقب أو أعراض. ومن هذه التجربة تسقط كذبة “جرِّب فقط”، وتتحوّل هذه التجربة إلى أداةٍ انتحاريةٍ جماعية. إن عبارة “جرِّب فقط” لا تقلّ عن الأسلحة الكيماوية خطورة، فهي ليست حبّةً مخدّرة في لحظة ضعف، إنما كذبةٌ كونيةٌ مُدَّت في جسم المجتمعات. فـ “جرِّب فقط” هي المدخل الأول إلى سقوط الفرد في دائرة الإدمان، وسقوط العائلة في دوّامة التفكك، وسقوط العلم نفسه ليتحوّل إلى مختبرٍ بلا بوصلة. العِلم وُجد ليُضيء، ولكن حين يفقد قيمه الأخلاقية يصبح أداةَ انطفاء. فكم من تجربةٍ بريئةٍ تحوّلت إلى كوارث، وإلى فضائح دولية! الحرية لا تعني أن نُلقي بأنفسنا في النار. نحن نحتاج إلى ميثاقٍ إنسانيٍّ للحد من هذه الفوضى المُقنَّعة. نعم، نحن نقول حرية وديمقراطية، لكن المجتمعات تُروِّج للحرية الزائفة. إن الخسارة تبدأ من اللحظة الأولى:
خسارة السيطرة، وخسارة البوصلة، وخسارة الإنسان لذاته.
إننا لا نُجرِّب لنكتشف، إنما نُجرِّب لنهزَم. إن هذه التجربة أزمةٌ عالمية تحتاج إلى مواجهةٍ شاملة، نكشف بها ونهدم أوهام الحرية الكاذبة. إننا اليوم محكمةٌ عالميةٌ للوعي، ويجب التفكير في جذور التجربة ذاتها:
متى تكون التجربة فعلًا إبداعيًا يصنع الحضارة؟
نحن اليوم بكلامنا هذا، بورشتنا هذه، لا ندعو إلى وقف التجريب، بل ندعو إلى إعادة تعريفه. ومن منبرنا هذا، ومن هذه الورشة العلمية، نقول: يجب أن تكون التجربة بمعناها النبيل أداةَ نهضة”.
يصبح السؤال هنا:
هل نجعل من التجربة سُلَّمًا نحو المستقبل؟ أم نسلكها لتتحوّل إلى سلاحٍ يحفر قبورنا؟
وقد قدّمت هذا السؤال الدكتورة إكرام عبد الرحماني، نفساني عيادي، من المؤسسة العمومية للصحة الجوارية بسكرة – مركز الوسيطي لعلاج الإدمان بسكرة / الجزائر. كان عنوان مداخلتها: من التجربة إلى السقوط: متى تنتهي كذبة فقط أُجرِّب؟
إن هذا الموضوع يمسّ كل الدول دون استثناء، وبدون تحديد أديانٍ أو جغرافيا معينة، لأنه هلاكٌ للصحة الإنسانية والجسدية، ينتج عنه جيلٌ غير ناضجٍ ومريض، وتتوارثه تلك الأجيال حتى نقع في أزماتٍ عالمية.
محاور المداخلة:
1-من التجريب إلى فخ الإدمان.
2-كيف لجأتُ إلى التعاطي وأصبحتُ مُدمِنًا.
3-هل أستطيع أن أخرج لوحدي أم أحتاج مساعدة؟
4-ما السبيل الصحيح الذي يُغيِّر من حياتي كمدمن؟
إن الإدمان يبدأ غالبًا بخطوةٍ صغيرة، ثم يتحوّل إلى فخٍّ يسيطر على حياة الفرد، وعلى أسرته ومجتمعه.
كان مفهوم الإدمان من قبل يُعتبر أو يدل على الانحراف ويقتصر على فئةٍ معينة، أما في الوقت الراهن فلم يعُد مختصرًا على فئةٍ محددة، بل أصبح يضرّ كل الشرائح في المجتمع.
تعاريف بسيطة:
التجريب: محاولةٌ لمرةٍ أو مرتين بدافع الفضول أو الضغط الاجتماعي.
الفخ: حالةٌ يتحوّل فيها الاستخدام المتكرّر إلى نمطٍ من الاعتماد النفسي والجسدي يصعب السيطرة عليه.
أولًا: من التجريب إلى فخّ الإدمان
إن الدافع الذي يؤول إلى التجريب – مهما كان بسيطًا – سيكون بداية الكارثة، إذ سيتناول الفرد تلك المادة، إن كانت دواءً مخدرًا أو عقاقير أو سمومًا أو تدخين القنّب الهندي أو الحشيش أو الكنابيس.
سيُجرِّبها في البداية في المناسبات، ولكن بعد ذلك سيطالب جسمه وعقله بالمزيد حتى يتعلق بالمادة ويعتمد عليها نفسيًا وجسديًا. فيجب ألّا نتجاهل درجة التأثير السلبي لهذه البدايات.
كيف يحدث ذلك الانتقال؟
المواد تُحفّز نظام المكافأة في الدماغ، مما يعطي شعورًا قويًا بالمكافأة، ويُعلِّم الدماغ تكرار السلوك. بالتكرار يتكوّن التحمل، أي يحتاج الجسم مقدارًا أكبر للحصول على التأثير نفسه، وتزيد احتمالية استمرار الاستخدام.
من العوامل الشرطية: الروائح، الأشخاص، الأماكن… إلخ. تصبح محفزاتٍ ترابطية تُثير الرغبة تلقائيًا، فيتحوّل الشعور بالمتعة الوهمية إلى سببٍ ليعيش الإنسان أو يدرس أو يواجه الناس.
مراحل عملية الانتقال:
1-تجربة أولية (فضول، مناسبة).
2-استخدام عرضي / اجتماعي.
3-استخدام متكرّر / منتظم.
4-فقدان السيطرة.
5-إدمان واضطراب الاستمرار رغم الأذى الواضح.
علامات مبكرة تُنبِّه إلى أن التجريب يتحوّل إلى مشكلة:
أولاً-التفكير المتكرّر في التعاطي، ضعف الأداء، زيادة الجرعات، محاولات فاشلة للحدّ أو الإقلاع، الانسحاب من أنشطة كانت مهمة.
ثانيًا-كيف لجأتُ إلى التعاطي وأصبحتُ مُدمِنًا؟
التركيز هنا على فهم القصة الشخصية، لا على إلقاء اللوم، بل على فهم الأسباب.
1-عوامل شخصية ونفسية شائعة تدفع للتعاطي:
الهروب، التخفيف من ألمٍ نفسي، البحث عن تجارب جديدة، ضغط الأقران، توفر المادة وسهولة الحصول عليها، الوراثة، زيادة الحساسية البيولوجية.
2-عوامل بيئية واجتماعية:
ضعف الدعم الأسري، صدمات أو مواقف متكررة (عنف، فقدان…)، تداخل عوامل بيولوجية ونفسية واجتماعية.
ثالثًا-هل أستطيع أن أخرج لوحدي أم أحتاج مساعدة؟
كإجابة مختصرة: ممكن أن ينجح بعض الأشخاص بالانسحاب الذاتي (التعافي الطبيعي)، لكن احتمالية الانتكاس أعلى عندما يكون الاعتماد قويًا.
متى تكون المساعدة ضرورية فورًا؟
عند التوقف المفاجئ عن الكحول أو البنزوديازيبيات، إذ تكون أعراض الانسحاب خطيرة مثل الهلاوس، القلق الشديد، الهذيان، الارتعاش.
متى تكون محاولة الإقلاع بمفردك معقولة؟
عندما يكون الاعتماد خفيفًا وقصير الأمد، مع وجود شبكة علاقاتٍ داعمة.
ماذا تُقدِّم المساعدة المهنية؟ ولماذا تزيد فرص النجاح؟
التقييم الطبي والنفسي لتحديد نوع الاعتماد وشدّته، إدارة الانسحاب الطبي، العلاج التحفيزي (Motivational Interviewing)، والعلاج السلوكي المعرفي (TCC).
كما يُستخدم دواء نالتريسكون / أكامبروسات (للأفيونيات) لتقليل الرغبة ومنع الانتكاس.
رابعًا-خطةٌ عملية قصيرة – ماذا أفعل الآن إذا أردتُ الإقلاع؟
1-قَيِّم الخطر فورًا: هل استعملت كمياتٍ كبيرة لفترةٍ طويلة؟ هل تشعر بأعراض انسحاب جسدية؟
إن كانت الإجابة نعم، فاطلب تقييمًا طبيًا فورًا.
2-ضع خطة سلامة قصيرة الأمد: حدّد صديقًا أو أحد أفراد العائلة للاتصال به عند الشعور بالرغبة الشديدة.
3-التزم بخطوةٍ عمليةٍ يومية، مثل تقليل الجرعة بنسبةٍ محددة.
4-اطلب مساعدةً متدرجة: استشارة طبيب، ثم اختيار خطةٍ علاجية (دوائية، سلوكية، أو مزيج).
ختاماً:
إن الإدمان ليس مجرد ضعف إرادة، بل هو حالةٌ معقدة تتداخل فيها العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية. يبدأ بتجربةٍ صغيرة، ويتحوّل تدريجيًا إلى فخٍّ يصعب الخروج منه، لكن يبقى التعافي ممكنًا متى توفّرت الإرادة والعلاج الصحيح.
وللمدرسة دورٌ جوهريٌّ في مواجهة هذه الظاهرة؛ إذ تُعدّ الحاضنة الأولى لتنشئة الوعي، ومن خلالها يمكن بناء ثقافةٍ وقائيةٍ تُحصّن التلاميذ ضدّ ضغوط الأقران، وتُنمّي قدرتهم على الرفض الواعي للمخاطر.
فالتربية السليمة والمعلومة الصحيحة تُسهمان في غرس قيم المسؤولية والانضباط الذاتي منذ الصغر، لتنشأ أجيالٌ قادرةٌ على قول “لا” أمام كذبة فقط أُجرِّب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذة ريما ملحم – كاتبة وشاعرة وناقدة أدبية.
