بقلم الدكتور محمد حساني*
تشهد مدينة شرم الشيخ المصرية في هذه الأيام مفاوضات سياسية دقيقة بين الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية، برعاية مباشرة من القاهرة وبمشاركة وفود أمريكية وإسرائيلية رفيعة المستوى. تهدف هذه المفاوضات إلى التوصل لاتفاق شامل لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، تمهيدًا لبدء عملية تبادل الأسرى وإعادة إعمار القطاع. وفي خضم هذه الأجواء، جاءت تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بدعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى زيارة مصر وحضور مراسم توقيع الاتفاق، لتفتح بابًا واسعًا أمام التساؤلات حول أبعاد هذا الموقف ودلالاته السياسية والاستراتيجية.
مصر واستعادة مركزية دور الوساطة الإقليمية
منذ اندلاع جولات التصعيد الأخيرة في غزة، سعت القاهرة إلى إعادة تثبيت موقعها كوسيط لا غنى عنه في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. وقد نجحت مصر خلال العقود الماضية في ترسيخ مكانتها كقناة اتصال موثوقة بين الأطراف كافة، مستندة إلى خبرة تراكمية في إدارة الملفات المعقدة في المنطقة. وعليه، فإن انعقاد المفاوضات الحالية على الأراضي المصرية يمثل تجسيدًا عمليًا لعودة الدور الإقليمي لمصر، باعتبارها الجهة القادرة على الجمع بين المتخاصمين وصياغة حلول متوازنة تراعي مصالح الجميع.
الدلالات السياسية للدعوة المصرية
تتجاوز دعوة الرئيس السيسي لترامب الطابع البروتوكولي، لتشكل رسالة سياسية متعددة الأبعاد. فهي من ناحية تؤكد رغبة القاهرة في منح الاتفاق المرتقب غطاءً دوليًا واسعًا يعزز من قوته القانونية والسياسية، ومن ناحية أخرى تُعيد إدماج الولايات المتحدة في مسار التسوية من بوابة مصر لا من بوابة إسرائيل.
وتُبرز هذه الخطوة أن القاهرة تسعى إلى تدويل الضمانات دون التفريط في سيادتها على مسار المفاوضات، ما يمنحها موقعًا تفاوضيًا متقدمًا ويُعيد تأكيد مكانتها بوصفها الفاعل الأكثر توازنًا في إدارة الأزمات الشرق أوسطية.
البعد الأمريكي… بين الطموح السياسي والمكسب الرمزي
من زاوية أخرى، لا يمكن فصل الدعوة المصرية عن الطموحات الشخصية والسياسية لدونالد ترامب، الذي يسعى لإعادة بناء صورته الداخلية واستعادة مكانته الدولية الذي تأثرت بدعمه اللامتناهي لحكومة نتنياهو. إذ عبّر ترامب غير مرة عن رغبته في نيل جائزة نوبل للسلام، وقدم نفسه على أنه الرئيس الذي “أوقف سبع حروب في سبعة أشهر”. وفي هذا السياق، تمثل الدعوة المصرية فرصة ذهبية له للظهور بمظهر “صانع السلام” الذي يوقّع اتفاقًا تاريخيًا في الشرق الأوسط.
أما من وجهة النظر المصرية، فإن حضور ترامب – حتى لو كان رمزيًا – يوفّر غطاءً سياسيًا دوليًا للاتفاق، ويجعل أي خرق لاحق له بمثابة طعن في مصداقية الولايات المتحدة نفسها، وهو ما يرفع من فرص الالتزام ببنوده على المدى الطويل.
الضغط الدبلوماسي على إسرائيل
الدعوة المصرية تحمل أيضًا بُعدًا آخر لا يقل أهمية، يتمثل في الضغط غير المباشر على الحكومة الإسرائيلية. فحين يجري الحديث عن اتفاق تُشارك فيه القاهرة وواشنطن معًا، فهذا يعني أن إدارة الملف لم تعد حكرًا على تل أبيب، وأن زمام المبادرة قد خرج جزئيًا من يدها.
هذا الوضع الجديد يضع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في موقف حرج، خصوصًا في ظل الضغوط الداخلية التي يواجهها. كما يحدّ من قدرته على استخدام المماطلة كأداة سياسية، لأن أي تعطيل لمسار التفاوض سيُفسَّر على أنه تعطيل لإرادة السلام المدعومة من قوتين مؤثرتين في المنطقة والعالم.
البعد الإعلامي والرمزية الدولية
في حال تحققت الزيارة وتم توقيع الاتفاق في شرم الشيخ، فإن الصورة التي ستتناقلها وسائل الإعلام العالمية ستكون “ترامب يوقع اتفاق سلام تاريخي في مصر”، وليس “انتصار إسرائيل في حرب غزة”.
هذه الصورة الرمزية وحدها كفيلة بإعادة صياغة السردية الإعلامية الدولية حول الصراع، وتحويل مركز الثقل من “العمليات العسكرية” إلى “صناعة السلام”، ما يعزز الدور المصري ويضعف الموقف الإسرائيلي على الساحة الدولية.
توقيت الدعوة وأبعاده الاستراتيجية
اختيار توقيت الدعوة قبل أيام من إعلان جائزة نوبل للسلام، وفي ظل جدل أمريكي متصاعد حول الدعم العسكري لإسرائيل، ليس صدفة. فالقاهرة تدرك أن توقيت الدعوة يمنحها وزنًا إضافيًا في المعادلة السياسية، إذ تتيح لترامب نافذة مثالية لاستعادة رصيده الدولي، وتوفر في الوقت نفسه لمصر منصة لتأكيد أن “السلام الحقيقي” لا يُصنع إلا على أرضها وتحت رعايتها.
ختامًا، تُظهر الدعوة المصرية لترامب أن القاهرة تتحرك وفق رؤية استراتيجية شاملة تسعى إلى تثبيت مركزيتها في معادلة تسويات الشرق الأوسط، من خلال إعادة تأكيد دورها كمحور لا غنى عنه في صناعة السلام الإقليمي. كما أنها في الوقت نفسه تعمل على إشراك الولايات المتحدة كضامن لاتفاق شامل ومستدام، بما يضمن استمرار الدعم الدولي لأي تسوية يتم التوصل إليها، ويحدّ من احتمالات انهيارها. كذلك تمثل هذه الخطوة أداة ضغط سياسية مدروسة على الحكومة الإسرائيلية، لدفعها نحو قبول وقف دائم لإطلاق النار والتخلي عن منطق المماطلة والمراوغة. وإلى جانب ذلك، تسعى القاهرة إلى إعادة صياغة سردية السلام الدولي انطلاقًا من أرضها، بحيث لا يُنظر إلى التسوية كاستجابة ظرفية للأزمة، بل كتحول استراتيجي تقوده مصر نحو شرق أوسط أكثر استقرارًا وتوازنًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد حساني يونس علي – باحث سياسي وأكاديمي متخصص في العلاقات العامة والتسويق الإلكتروني.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
