بقلم الأستاذ أيوب نصر*
توطئة
كانت الأغلبية الكثيرة، من محللين ومتابعين للأحداث الدولية، تُمنّي نفسها أن ينتهي اجتماع جدة، بين الروس والأمريكيين والأوكران، إلى الاتفاق على هدنة مؤقتة، يتولد عنها بعد ذلك هدنة طويلة المدى، ولكن انتهت الأمور إلى غير ما تمنته الأنفس وكانت ترجوه، مما تأكد معه للإدارة الأمريكية بشكل واضح لا اشتباه فيه صعوبة إحداث اختراق في المسألة الأوكرانية، وقد كانت هذه الإدارة من قبل تحسب الأمر هيّنًا والحقيقة ما هو بهيِّن، وخاصة أن كل يوم كان يغبر وراء أظهرنا يثبت معه صعوبة حل الأزمة أو التوصل إلى هدنة، وعلّة ذلك كما أوضحت في لقاء على أثير راديو سبوتنيك، أجريته قبل لقاء جدة، يوم 21 مارس الماضي، هو غياب الثقة، كما أنه لا يمكن حل الارتباط الروسي الصيني.
لكن وفي عزِّ ما يظهر للمتابعين من الامتناع الروسي على عدم الذهاب إلى هدنة، أعلن الكرملين يوم الاثنين 28 أبريل عن أمر بوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أيام من 8 إلى 10 ماي، فهل كان لتغير لهجة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نحو روسيا ونحو الرئيس فلاديمير بوتين أثر في إعلان الهدنة؟ أم أنّ هناك أشياء أخرى تحمل الكرملين على ذلك؟
هل التصعيد في لهجة ترامب هو السبب؟
قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض بوقت قصير بدأ الحماس الذي كان في كلام المسؤولين في الكرملين تخبو شعلته، بعدما كان متوهّجًا في الأيام التي تلت إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، مما كان ينبئ عن وجود مفاوضات سرية، ظهر معها للجانب الروسي أن الإدارة الجديدة في البيت الأبيض لا تنطوي قراراتها على حلول جديدة من غير سابقة ولا ابتداء، وإنما هي حلول اقترحتها الإدارة السابقة، وقد لمّح وزير الخارجية الروسي قبل أيام إلى وجود ديبلوماسية سرية، تعمل من تحت حجاب ومن خلف الستار المسدل، ولكن الرئيس ترامب كان يعوّل على علاقته الشخصية بالرئيس بوتين، لتفعيل تلك الحلول، أو على الأقل إحداث اختراق في الأزمة.
وذلك الخفوت في حدة التفاؤل، لدى المسؤولين الروس، الذي كانت توحي به أقوالهم وتصريحاتهم ويظهر على شكل انطباعات في أنفس المتلقّين والمتابعين، يمكننا من القول إنّ هذه الهدنة التي اقترحها الكرملين ليست نتيجة للتصعيد الذي طرأ على لهجة الرئيس الأمريكي وتهديده بعقوبات جديدة على روسيا، وذلك أنه كان متوقّعًا، خاصةً مع نهاية المئة يوم الأولى، وإن كانت له علاقة خفيفة سنأتي على بيانها بعد حين.
لماذا الإعلان عن هدنة في هذا الوقت؟
إعلان روسيا عن هدنة لمدة ثلاثة أيام متزامنة مع الاحتفالات بعيد النصر على النازية، ينطوي في ثناياه على رسالتين، حسب ما وصلت إليه نظرتي في الأحداث واستقرائي لها.
الرسالة الأولى موجّهة للطرف الثالث المحايد، وهو الطرف الذي عليه الصراع الروسي الغربي لاستمالته واستقطابه لما يملك من أسباب ترجيح كفّة أحد المتصارعين، ومن علل جعل كفة الطرف الآخر مرجّحة، وهي الدول غير المتدخلة في الصراع وغير المؤثرة فيه إلى الآن بشكل مباشر، مثل الدول العربية والإفريقية، وهذه الرسالة تحمل معنى أن روسيا تسعى للهدنة وتصبو للمفاوضات وتطمح الى السلام.
وأما الرسالة الثانية، فهي موجّهة للطرف الآخر من الصراع وهو الطرف الغربي، ومعناها أن روسيا هي الطرف الأقوى، وأنها هي التي تحدد وقت الهدنة وموعدها، وأنها المتحكم الأول في إيقاع الحرب الأوكرانية، وأنها لا تخشى عبارات الوعيد ولا كلمات التهديد ولا التلميح بالتصعيد وفرض العقوبات التي لوّح بها الرئيس الأمريكي (من هذه الناحية يلتقي قرار الكرملين بتهديد الرئيس الأمريكي).
الخلاصة
روسيا تحاول أن تبعث برسالتين من خلال قرارها الخاص بالهدنة، الأولى أن روسيا منفتحة على الحوار وتسعى للهدنة والسلام، والرسالة الثانية أنها هي التي تمسك بعنان الصراع وتملك القوة للسيطرة عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ أيوب نصر – باحث في العقائد والمدارس الفكرية والاستشراق، مختص في الشأن الأوراسي والعلاقات الدولية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً