بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
في كتابهما ” كيف تموت الديمقراطيات”، يصف ستيفن ليفتسكي ودانيال زيبلات من جامعة كمبريدج، كيف يمكن للقادة المُنتَخبين تخريب العملية الديمقراطية وذلك حين لا تُحترَم أسس اللعبة السياسية وضوابطها ويغيب الحوار وتحضر العواطف، مؤكدين أن اغتيال الديمقراطية لا يأتي فقط عبر الانقلابات العسكرية، بل عبر نخب سياسية استغلت وجودها في السلطة لضرب المؤسساتِ الدستورية، الإطارِ الضامن للديمقراطية.
كانت ثورات 2011 ضخمة ورهيبة، بحجم الغضب المكبوت لدى الشعوب العربية، كانت الأصوات تنادي بالحرية والديمقراطية على غرار ثورات العالم الحر، وأن الحرية هي أساس حياة الإنسان. لكن الأهم في كل الثورات، ليست لحظة البداية ولا انتصاراتها الأولى على أنظمة الاستبداد، بل في ترسيخ وبناء أنظمة جديدة مغايرة لسابقتها. كل الثورات التي تخرج عن مسارها تنتهي دائماً بالفوضى أو إلى كابوس استعادة الماضي بكل انكساراته ومآسيه ومشاكله.
مثلما أشار إلى ذلك الكاتب جورج أورويل في روايته (مزرعة الحيوانات)، حيث يعطي تحليلاً واقعياً للثورة، إذ يمكنها أن تؤدي إلى تغيير الأنظمة، لكن قد تغيرها إلى أسوأ مما هي عليه، خصوصاً عندما لا تكون هناك ضوابط وقواعد ومبادئ تحدد مسار هذه الثورات، الشيء الذي يُعجِّل بفشل الأهداف المنتظَرة منها، ويصبح الواقع أسوأ من ذلك الذي كانت تهدف إلى تغييره.
قد تشكل بعض البلدان العربية استثناءً من حيث الأمن والاستقرار، لكنها بعيدة جداً عن كونها استثناءً فيما يخص عمل النخب السياسية وفاعليتها على أرض الواقع، حيث عجزت عن وضع خط مسار انتقال ديمقراطي سلس. فالتقديرات غير الدقيقة للثورة أدخلت بعض البلدان في وحل الحروب الطائفية والأنظمة العسكرية، لكنني أعتقد أن العجز الذي يصيب الدول الناجية من الفوضى، وتقاعس قياداتها السياسية قد يؤدي بها إلى مصير غير مختلف كثيراً.
كانت فترة ما بعد 2011 تحمل الكثير من آمال الناس وشعارات التغيير، سرعان ما تحولت مع أول انتخابات إلى سراب، حيث حولتها النخب السياسية “الجديدة القديمة” إلى وقود انتخابي وصراع من أجل الكراسي وبناء سياسة جديدة بأفكار قديمة ونزاع بين مختلف الكتل السياسية التي أدخلت بعض البلدان في مأزق وانتكاسات جديدة.
إذ لا يمكن أن ينفرج الوضع السياسي العام العربي، دون فهم أن السلطة متكاملة وأن الديمقراطية بحاجة إلى تناغم حتى يمكنها خدمة الشعوب، وفي انتظار تحقيق هذا الفهم البسيط، تغرق البلدان في صراعات سياسية ونخب فاسدة متآكلة، بنيت على أذيال أنظمة استبدادية وبآلياتها القمعية والسلطوية وبفكرها الشمولي.
إذا وافقنا ماكس فيبر بأن أهم سمات الدولة الديمقراطية هي العقلانية والانسجام، فإن ما هو رائج في الوسط العربي، لا يزيد عن كونه عبثاً مستمراً بكل المقاييس بعيداً عن أي تصوّر عقلاني، لكن خلاصة القول: إنّ البناء الديمقراطي، مثل الثورات، هو مسار معقّد قد تتعلم الشعوب من أخطائها وتتجاوز فشل اختياراتها وتصحح مسارها، مع تراكم الوعي والنضج وثقافة المواطنة، بشرط ألّا يكون ذلك بعد فوات الأوان ونستمر في الاستثمار في النكسات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبد الله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية و الأفريقية في صحيفة الحدث الأفريقي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً