بقلم الأستاذ سفيان حشيفة*
عامان انقضيا على بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، بغية حماية سكان دونباس من اضطهاد وتعسُّف النظام الأوكراني، ونزع النازية الجديدة الإجرامية المدعومة من الغرب الجماعي لإلحاق الأذى بروسيا الإتحادية وثقافتها وحضارتها العريقة الضّاربة أطنابها في عمق التاريخ البشري والإنساني.
منذ انطلاق شرارة العمليات العسكرية ضد النازية في أوكرانيا، أدركت روسيا أن العلاقة مع الغرب آخذة في الإنهيار، ووجدت نفسها في حرب شاملة ومعقدة مع حلف الأطلسي “الناتو”، الذي تدخل لمساندة الطُّغمة الأوكرانية الحاكمة بالمال والسلاح، وحتى العقوبات الإقتصادية والثقافية غير الشرعية من أجل ثني بوتين عن تحقيق أهدافه في دونباس، لكن الصُّمود الأسطوري الواضح للكرملين وقيْصَرِه في وجه كل المخططات الأمريكية والأوربية الدنيئة حال دون سقوط الراية الروسية الشّامخة.
وقد أبان سحق قوات كتيبة آزوف وفلول الجيش الأوكراني في مدينة أفديفكا شديدة التّحصين وتحريرها من براثن النازية، الكائنة في جمهورية دونيتسك الشعبية، بالتوازي مع حلول الذكرى الثانية لبدء العملية الخاصة، عن غلبة وجلبة، ومنعة وهمّة عسكرية روسية في الميدان على قوات ومرتزقة زيلينسكي المُسند أمريكيًا وأطلسيًا، الذين تهاووا وفرّوا بجبنٍ مفضوحٍ من هول ما واجهوه من بأس الجيش الروسي، المُستمر بلا هوادة في تقدمه لتحرير تشسوف يار و كراماتورسك و سلافيانسك و كونستانتينوفكا و سيفرسك و ليمان و أوشيريتيني و أورلوفكا و أومانسكي و كارلفكا و زهيلاني و كراسنوهوروفكا و هيورفكا و ماكسميليانفكا و كوراخوفى و أوغليدار و فوديان و فيليكايا نوفوسيلكا -جمهورية دونيتسك-، وصولاً إلى استعادة مدن وبلدات شمال زاباروجيا وغرب خيرسون، وربّما التوجه نحو كييف لاحقًا مثلما قال السيد ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي.
عندما أعلن الرئيس الروسي السيد فلاديمير بوتين عن بداية العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، كان يدري بالفعل ما يفعل، حيث جهّز وأعدّ اقتصاد بلده لمواجهة التحديات المُحتملة جرّاء إعادة أقاليم لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون للوطن الأم روسيا، وهو ما تُوضِّحه، حقيقةً، المؤشرات الخضراء والأرقام الإيجابية لمختلف القطاعات الإنتاجية في الداخل الروسي، على عكس ما يحدث من انهيار اقتصادي وتضخم فظيع في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية قضّ مضجع شعوبهم.
وبعد أربعة وعشرين شهرا على انطلاق العملية الخاصة يمكن الجزم بأنها حققت نتائج إستراتيجية تتمثل في:
1-تمكنت روسيا منذ الوهلة الأولى لانطلاق العملية العسكرية الخاصة من تدمير البنية التحتية العسكرية الضخمة في أوكرانيا بصواريخ عالية الدقة، وهي البُنى التي شيّدها الحلف الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 2014، لتقوية شوكة النظام الأوكراني المُعادي بالوكالة للكرملين ومصالحه الإقليمية والدولية.
2-مع بداية العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا اكتشفت روسيا وجود برنامج بيولوجي عسكري أمريكي خطير وفتّاك وغير سلمي على أراضي كييف، وفكَّكتهُ كليًا قبل أن يُهدِّد الأمن القومي والصّحة العمومية الروسية.
3-في الأشهر الأولى للأزمة، استطاعت روسيا جعل بحر أزوف بحيرة روسية خالصة، في خطوة هامة جدًا ذات أبعاد إستراتيجية جغرافية أمنية واقتصادية وحتى سياحية.
4-تحجيم القدرات العسكرية الأوكرانية وتبديدها حتى لا تكون معولا أطلسيا وأمريكيا لضرب روسيا ومصالحها الكبرى في الإقليم المحيط والعالم.
5-بعد مرور العام الأول، نجحت روسيا في بناء اقتصاد قوي ومُتكيِّف من المتغيِّرات، قادر على التصدي للعقوبات الغربية مهما كان حجمها، ومستقلا عن الضغوط والعوامل الخارجية السلبية.
6-تداركت روسيا سريعًا التأخر المسجل في مجال صناعة الطائرات المسيرة العسكرية وفقًا لحاجيات العمليات الحربية داخل أوكرانيا، وأكثر من هذا أبدع العقل الروسي في إنتاج مسيرات عالية التقنية بقدرات قتالية شرسة في ساحات المعارك على غرار مسيرة “لانسيت” العجيبة والمدمرة للمدرّعات الثقيلة.
7-تأكيد على تفوق الثالوث النووي الروسي وفرض الأمر الواقع للكرملين على قوى الغرب الجماعي في أوكرانيا أو غيرها من مناطق التوتر.
8-بروز فعالية أكبر لمنظومة الصورايخ الروسية لا سيما الفرط صوتية منها أثناء العمليات الحربية، وقدرتها الفائقة على تجاوز أنظمة الدفاع الجوي الغربية خاصة باتريوت الأمريكية، بل وتدمير منصاتها في مواقعها وسط المدن.
9-خلال مجريات العمليات الحربية في أوكرانيا، تمايز لدى روسيا الإتحادية الصديق الحقيقي من المُزيف الذي لا يستحق الإهتمام، واتضح لها أن كثير من الدول الصديقة قبل الحرب لا تعدو كونها عَدوَّة لكنها تُضْمِر ذلك، وبالتالي يُساعدها الأمر مستقبلا على اختيار حلفاء أوفاء في سياق إنشاء تكتلاتها وتجمعاتها السياسية والإقتصادية سواءً إقليمية أو دولية.
10-أتاحت الأنشطة العسكرية في أوكرانيا لروسيا اغتنام أسلحة أطلسية وأمريكية متطورة، سيُمكِّنها الحصول عليها من صنع أجهزة عكسية لها، ومنه التقليل من فعاليتها وخطرها ضد جنودها في المعارك.
11-استطاعت روسيا في معترك العمليات العسكرية استكشاف طبيعة عمل السلاح الغربي بأدقّ التفاصيل، ومنه تحسين ورفع كفاءة رداراتها وطائراتها ومختلف معدّاتها الحربية بما يتماشى مع متطلبات الرّدع والمواجهة.
12-تعاظم هيبة روسيا الإتحادية في العالم نظير تفوقها العسكري الواضح على الترسانة الأطلسية والأمريكية في أوكرانيا.
إلاّ أن تلك المعطيات الايجابية المذكورة لم تكن حائلاً دون تسجيل بعض النقائص في تسيير العملية العسكرية الخاصة في جانبها الدعائي الإعلامي:
1-أظهرت العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا ضعفًا في المنظومة الدعائية الإعلامية الروسية في العالم، حيث تعرضت لمضايقات وحجب وتشويه من الطرف الغربي المُتحكم في وسائل التواصل والنواقل الدولية، وهو ما دفع روسيا لاتخاذ إجراءات من خلال تقوية المؤسسات الإعلامية الحكومية في العالم العربي وإفريقيا مثل RT و Sputnik، من أجل مواكبة الحملات الدعائية الغربية والترويج لمصالح الكرملين.
2-مثّلت شبكات ووكالات RT و Sputnik و Ria Novosty، مصدرا مهما للمعلومات العسكرية الروسية في الشرق الأوسط وقارة أفريقيا، لكنها لم تكن كافية في وجه التغوّل الدعائي الغربي، إذ تُحتِّم الوضعية على روسيا مستقبلاً إنشاء قاعدة مصادر للمعلومات الرسمية تكون منافسة للغارديان وتلغراف وإندبندنت ولوموند ولوفيغارو ونيويورك تايمز وبلومبيرغ ووال ستريت جورنال ودايلي نيوز وغيرها من المؤسسات الإعلامية الكبرى المُؤثرة في الرأي العام والقرار السياسي الدوليَيْن.
3-رغم أن الرأي العام العربي والإفريقي ساند روسيا في عمليتها الخاصة في أوكرانيا، بيد أن معلوماتها منذ بدايتها كانت شحيحة وغير صحيحة في كثير من الأحيان بسبب الدعاية المناوئة، وحريٌ بموسكو تدارك هذا الوضع ومعالجته في الأمد القريب من خلال التأسيس لمنظومة إعلامية دولية تنافسية وندّية لما هو نشط بالغرب الجماعي.
وعلى صعيد آخر، أفرزت العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا تأثيرا بالغا في بنية النظام الدولي، لاسيما من حيث أنساق التعاملات والتفاعلات الدولية بعد اندلاع الأزمة، وفي توازنات المنتظم الأممي القائم، أملاً في ترتيب وتقويم مساراته المستقبلية على نحوٍ جديدٍ من شأنه إنهاء هيمنة الغرب الجماعي والولايات المتحدة الأمريكية على العالم.
وتُؤشِّر إرهاصات العملية العسكرية الروسية ذاتها إلى بداية اضمحلال أحادية القطبية، ونهاية الهيمنة الأمريكوأوربية على العالم، في ضوء ضجر كثير من دول جنوب المعمورة من تداعيات الأمر، كما تَشِي ببداية تشكل منتظم أممي جديد قِوامه التعددية القطبية والتنافس الشريف بين القوى الفاعلة سياسيًا وإقتصاديًا وعسكريًا.
في الذكرى الثانية لبدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، شاء أم أبى الغرب الجماعي فقد انتصر بوتين، وسحق النازية الجديدة برغم الدعم اللامحدود لنظام زيلينسكي من أوروبا وأمريكا واليابان واستراليا، وليس أدّل على ذلك من تواصل تمدّد جيشه في دونباس وخاركيف وزاباروجيا وخيرسون، واستمرار تحريره للمدن والبلدات والقرى الإستراتيجية في خضمّ تحقيق أهداف الكرملين المُسطّرة، فضلاً عن نمو الإقتصاد الروسي بشكلٍ مُتسارع ومُتصاعد خلال السنتين الماضيتين بالإعتماد على ذاته، مع احتوائه وصدّه لكل العقوبات المفروضة عليه، وعكسها سلبيًا على مُنفذيها من دول الغرب العدائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ سفيان حشيفة – صحفي وكاتب سياسي جزائري
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً