بقلم الدكتور آصف ملحم*
لا يمكن أن يستمر التصعيد إلى الأبد. في جعبة كل طرف جملة واضحة ومعروفة من الإجراءات، والتي يتم استخدامها تدريجياً. نتيجة التصعيد يمكن أن تكون إما تراجعاً عن الهاوية أو انهيار كامل. حتى الآن تسير الأحداث وفق الخيار الثاني؛ لم يبق سوى القليل من الوقت قبل هذه النتيجة الدراماتيكية، لأن ذخيرة التصعيد لدى الطرفين أوشكت على النفاد؛ ثلاث خطوات أخرى – وستكشف الأطراف عن أسلحتها النووية! ربما في البداية ليس في شكل ضربات عسكرية، ولكن في شكل اختبارات نووية، وبذلك سيتم التغلب على حاجز الهجوم النووي، ثم لن يكون هناك سوى حرب عالمية!
نحن الآن في المرحلة الأخيرة من التصعيد، الذي بدأ حقيقةً مع عدم فهم المخاطر والعواقب المترتبة على انهيار الاتحاد السوفييتي. لقد ضاعت جميع الفرص من أجل بناء نظام عالمي و ضمان الأمن العالمي؛ أولا في أواخر الثمانينيات، ثم في أوائل التسعينيات، ثم في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. إن تاريخ الربع الأول من القرن الحادي والعشرين بأكمله، باستثناء بدايته، هو تاريخ تراكم الطاقة السياسية السلبية، التي فهمتها روسيا والولايات المتحدة على أنها علامة قوة. كلما تمكنا من التدمير أكثر كلما زاد الضرر الذي نلحقه بالعدو، وبالتالي أصبحنا أقوى.
لقد أصبحت أوكرانيا بؤرة خلاف، ليس فقط بسبب شبه جزيرة القرم وأسطول البحر الأسود وظروف نقل الغاز فحسب. تبين أن أوكرانيا تمثل أساس المشاكل السياسية للاتحاد السوفييتي السابق، و الأسباب كثيرة: الجذور التاريخية، تقاطع الثقافات، الجمود السوفييتي، متلازمة ما بعد الاتحاد السوفييتي، الانضمام إلى تكتل عسكري أو عدم الانضمام، اتجاهات التكامل الاقتصادي، أزمة النخب، المخاطر القومية، مشاكل الهجرة.
بعد أن بدأ التصعيد (يمكن وضع تاريخ بدايته منذ انتخاب الرئيس الأسبق فيكتور يوشينكو عام 2004)، اتخذ الصراع من أجل أوكرانيا طابعاً وجودياً بالنسبة للولايات المتحدة والدول الغربية وروسيا. إن المعركة ليست من أجل أوكرانيا في حد ذاتها، بل من أجل نظام عالمي جديد. ولهذا السبب فإن المخاطر أكبر من العالم.
عوّل أطراف التصعيد على أن خطواتهم المقبلة ستستنفذ قدرات العدو وتجبره على التوقف، ولكن في كل مرة يتبين أن التصعيد ليس له نهاية؛ ففي كل مرة يؤدي التصعيد إلى إطلاق طاقة تدمير جديدة.
بدأ التصعيد عام 2024 بدخول القوات المسلحة الأوكرانية إلى أراضي روسيا المعترف بها دولياً في 6 أغسطس. وأعلنت روسيا مراجعة عقيدتها النووية، مضيفة التزامات تجاه بيلاروسيا. وسمحت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لأوكرانيا باستخدام أسلحة بعيدة المدى وعالية الدقة ضد أهداف على الأراضي الروسية. استخدمت أوكرانيا هذه الأسلحة على أهداف في منطقتي كورسك وبريانسك يومي 19 و21 نوفمبر. وافق بوتين على عقيدة نووية جديدة في 19 تشرين الثاني/نوفمبر. وفي 21 تشرين الثاني/نوفمبر، استخدمت روسيا أحدث صواريخها العابرة للقارات متوسطة المدى، سماه الرئيس بوتين في تصريحه الموجز البارحة باسم (أوريشنيك)، ضد هدف في أوكرانيا. وقال بوتين إن الضربات على أهداف في تلك الدول التي تسمح باستخدام أسلحتها ضد أهداف في روسيا ممكنة، وسيتم الإعلان عن الضربات مقدماً.
في الواقع، صاروخ أوريشنيك هو صاروخ أرض-أرض، اسمه RS-26، وهو نسخة معدلة من صواريخ يارس. رأسه الحربي 4-5 طن، مداه 2000-6000 كم. تم إطلاقه البارحة صباحاً من منطقة كابوستين يار في مقاطعة أسترخان، و أصاب منشأة صناعية اسمها يوجماش في مقاطعة دنيبروبتروفسك الأوكرانية. قطع مسافة 830 كم حتى وصل إلى الهدف.
لم تعد هذه مجرد كرة ساخنة، بل كرة مشتعلة في جانب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
ماذا بقي في ترسانتهم العسكرية، نشر الأسلحة النووية في الدول غير النووية في أوروبا، أم إرسال وحدات عسكرية من الناتو إلى أوكرانيا مباشرة؟
هل سيتم إغلاق أجواء أوكرانيا، وهو يعادل دخول حلف شمال الأطلسي بشكل مباشر في الأعمال العسكرية؟
لم يتبق سوى خطوات قليلة قبل البدء بإجراء اختبارات بالأسلحة النووية، وخرق معاهدة حظر تجارب الأسلحة النووية في الغلاف الجوي والفضاء الخارجي وتحت الماء، والانهيار النهائي لنظام الأمن النووي الدولي واستخدام الأسلحة النووية التكتيكية.
هل روسيا مستعدة لاستخدام الأسلحة النووية؟ نعم!
هل الدول النووية في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مستعدة لاستخدام الأسلحة النووية؟ نعم!
لقد تم التغلب على الحاجز النفسي عند الجانبين. لقد وصل مستوى (التحسس والضغط) إلى مستويات حرجة، و الحقيقة أصبحت في استعداد تام للصدام المباشر.
إذا لم يتم التوصل خلال الأيام المقبلة، أسبوع على الأكثر، إلى اتفاق سياسي بشأن وقف كامل لإطلاق النار دون شروط مسبقة وبضمانات الوسطاء والانتقال إلى المفاوضات، فإن الحرب العالمية الثالثة ستصبح حتمية!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث و الدراسات (موسكو).
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً