بقلم الدكتور يونس الديدي*
في كل حرب، ثمّة فئة تربح أكثر مما تخسر. ليست تلك الفئة التي يُدفَن أبناؤها تحت الرّكام، ولا تلك التي تُجبر على الفرار من منازلها تحت القصف، بل أولئك الذين تتصاعد ثرواتهم مع كل طلقة رصاص، وتنتفخ حساباتهم البنكيّة مع كل قنبلة تسقط على الأبرياء. إنهم تجار الموت، وسماسرة الحروب، وشركات الأسلحة، والتحالفات السياسية التي تختبئ خلف شعارات الأمن والاستقرار، بينما تزرع الخراب والفوضى حيثما حلّت.
ما يحدث اليوم في غزة، اليمن، سوريا، ولبنان ليس مجرّد صراع مسلّح، بل عملية إبادة ممنهجة، هولوكوست جديد يُنفّذ بدم بارد، تحت سمع وبصر العالم، وبتواطؤ أنظمة تبيع أمنها القومي مقابل “تحالفات” تخدم سادة الحروب في واشنطن وتل أبيب. فإذا كانت الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني، ومجمعات التصنيع العسكري يعتبرون أنفسهم شركاء لدول الشرق الأوسط، فلماذا يتعاملون باستخفاف مع دماء المسلمين؟ لماذا تبدو حياة الإنسان العربي والمسلم أرخص من أن تُحسب في معادلات المصالح الدولية؟
حرب غزة: إبادة على مرأى العالم
لم تكن المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة خلال الأشهر الأخيرة سوى تأكيد على أنّ منطق “الإبادة الناعمة” الذي يتبناه الغرب لم يعد خافياً. إنّ أكثر عدد الشهداء الحالي، أغلبيتهم من النساء والأطفال، قصف مستشفيات ومدارس، وتجويع ممنهج لشعب بأكمله، كل ذلك يحدث بينما تُبقي الولايات المتحدة على جسرها الجوي لإمداد إسرائيل بالقنابل الذكية، وتُحبط أي قرار أممي قد يوقف هذه المجازر.
إذا كان التاريخ قد حاسب هتلر على محرقة اليهود، فهل سيحاسب نتنياهو على هولوكوست غزة؟ الفرق بينهما ليس في وحشية القتل، بل في أن نتنياهو يحظى بشرعية دولية، ودعم مالي وسياسي من القوى العظمى، مما يجعله في نظر البعض أقل وحشية. ولكن الحقيقة أن الأرقام على الأرض لا تكذب: عدد الضحايا الفلسطينيين في العقود الأخيرة يتجاوز بمراحل ضحايا الهولوكوست النازي، فكيف يكون هتلر الشيطان المطلق بينما يحتفي الإعلام الغربي بنتنياهو كمدافع عن “الديمقراطية”؟
اليمن وسوريا ولبنان: حرب الاستنزاف المستمرة
إذا كانت غزة مسرحاً لمجزرة تُنفذ أمام الكاميرات، فإن اليمن وسوريا ولبنان هي جبهات لحروب يتم التحكم بها عن بُعد، حيث يُسمح للأطراف المتحاربة أن تستمر في القتال بما يكفي لإبقاء دولها منهكة ومشلولة، لكن دون السماح بحسم الصراع لصالح أحد.
في اليمن، لم تعد الحرب مجرّد صراع محلي إقليمي، بل أصبحت مختبراً لأسلحة دولية جديدة، وسوقاً مفتوحاً لتجار السلاح، حيث تُجرّب القنابل الذكية والطائرات المسيّرة الحديثة على أجساد المدنيين.
وفي سوريا، تحوّل الصراع إلى فوضى مدروسة، حيث تتداخل المصالح الأمريكية والروسية والإسرائيلية والإيرانية، بينما الشعب السوري هو من يدفع الثمن.
أما في لبنان، فالحصار الاقتصادي والانهيار المالي ليسا مجرد نتيجة لسياسات خاطئة، بل هما جزءٌ من استراتيجية أوسع لتفكيك أي دولة قد تشكّل تهديداً للهيمنة الإسرائيلية في المنطقة.
تواطؤ الأنظمة: احتلال مُغلّف بالتحالفات
ما يجعل هذه الإبادة أكثر قسوة هو أن بعض الأنظمة العربية لم تعد مجرد متفرّج صامت، بل أصبحت شريكاً في الجريمة، تفتح أجواءها لطائرات العدو، وتغلق حدودها في وجه اللاجئين، وتحوّل الإعلام إلى أداة للترويج لخطاب “المصالحة” مع القاتل.
الاحتلال لم يعد يحتاج إلى دبابات وجيوش جرارة، بل يكفيه توقيع اتفاقيات أمنية وصفقات سلاح، ورفع أعلامه في عواصم كانت إلى وقت قريب تعتبره عدوّاً وجودياً. إنه احتلال ناعم، مغلّف بمصطلحات مثل “السلام” و” التعاون”، لكنه في جوهره لا يختلف عن الاستعمار القديم، بل ربما يكون أكثر خطورة لأنه يُمارس بموافقة الضحية.
إلى متى سيستمر هذا الصمت؟
لو كانت هذه المجازر تحدث في أي مكان آخر، هل كان العالم سيبقى صامتاً؟ لو أن نتنياهو لم يكن رئيساً لحكومة إسرائيل، بل زعيماً لدولة إفريقية أو آسيوية، هل كان سيُسمح له بمواصلة جرائمه؟
الحقيقة القاسية هي أن حياة المسلمين لم تعد تُحسب في معادلة الحقوق الإنسانية، وأن التطبيع مع الألم أصبح جزءاً من النظام العالمي الجديد، حيث يُطلب من الضحية أن تقبل بمصيرها بصمت، حتى لا تُتّهم بـ ” معاداة السامية” أو “الإرهاب”.
لكن التاريخ يعلّمنا أن الشعوب قد تصمت، لكنها لا تنسى، وأن الاستعمار مهما غيّر أدواتِه، فإنه لن يستمر إلى الأبد. ربما يراهن تجار الموت على أن أصواتهم هي الوحيدة التي يجب أن تُسمع، لكن صدى صرخة طفل تحت الأنقاض في غزة، أو أنين أمٍّ فقدت أبناءها في اليمن، أقوى من كل أصوات أسواق الأسهم، وأبقى من كل المؤامرات السياسية.
السؤال الآن ليس متى ستنتهي هذه المجازر، بل متى سيقرر العالم أن يعترف بها على حقيقتها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور يونس الديدي – كاتب صحفي، محاضر وأستاذ جامعي، باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً