بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
في بداية القرن السابع عشر، أبدع الكاتب الإسباني ميكيل دي سرفانتيس في كتابة “دون كيشوت”، الرواية العالمية التي ترجمت إلى لغات عدة، بطلها الفارس دون كيشوت، قرأ عن الفروسية التي بدأت تتراجع مع تفكيك الروابط الإقطاعية في القارة العجوز، بعد الاكتشافات الهامة التي عرفها عصر الأنوار الذي فتح آفاقاً علمية ومعرفية جديدة وقيماً إنسانية أخرى.
فقرّر الفارس المغوار، تحدي الواقع، وتقمّص الدور الكبير ولو في مخيلته، غير مدرك في غمرة الحماس أنه بعيد جداً عن الواقع، وأن حقائق الواقع شيء آخر. هكذا تبدو سياسة العديد من الدول التي لا زالت تؤمن بالعنتريات والكلام المؤثر ومفاهيم الاشتراكية البائدة والحرب الباردة، هكذا يبدو الأمر عند الكثير من الدبلوماسيين الذين يرون فقط بعين واحدة.
آمنوا بأشياءَ خياليةٍ، لكنْ من شدة الغباء، ما زالوا متشبّثين بأمل تحقيقها، فيضعون أنفسهم موضع سخرية. جلبوا لأنفسهم العار و ويلات تشرذم شعوب، ما يجمعها أكثر مما يفرقها. إنها ليست لعنة السياسة ولكن لعنة الغباء والعنتريات التي لا تنتهي وشعوب تصفق، ونخب غير مكترثة بالواقع ولا يهمها قول الحقيقة.
يتسبب الفارس المغوار في كوارثَ لا تحصى ويخسر كل المعارك الوهمية، وقد رمته الطواحين، التي تخيّلها أعداء له، ونازلها بسيفه الخشبي البائس وحصانه الهزيل. صورة حقيقية لشرذمة مرتزقة، استنزفت خيرات شعب بمباركة قيادات جاهلة، تشتغل لتحمي نفسها مهما كلفها الأمر، أنفقت مليارات الدولارات على وهم يسكن عقولهم منذ عقود، دون أن يتدخل عقلاء المجتمع لإيقاظهم من سباتهم ووقف نزيف أموال شعب مغلوب على أمره.
لذلك لا زال دون كيشوت شخصية نموذجية، قابلة لإيواء الكثير من المفاهيم والتركيبات النفسية العابرة للعصور، وتعترضنا يومياً في حياتنا العامة، وفي كل مكان وزمان. فكم من دون كيشوت اليوم، لا يرى الواقع إلا من خلال أوهامه وخياله وانطباعاته، نسي الإنصات لصوت العقل، بدافع الحقد والكراهية، وظنّ نفسه فارس زمانه و سيّد الحكمة. كم من متهور ظنّ نفسه حكيماً ومناضلاً، غير عابئ بحدود قدراته، وغير معترف بغبائه، فتكون النتيجة ثمناً باهظاً يدفعه مجتمعه.
نعيش فوضى خطابات متناقضة، يختلط فيها الوهم بالواقع والحقيقة بالخيال، بين خطاب رسمي يسعى إلى إقناع الناس بأن المؤامرات والعدو الخارجي هي سبب تعاستهم، وسبب كل مصائبهم، وأن البلاد والعباد ستتحسن أحوالهم، بعد القضاء عليهم جميعاً، وخطاب منافق فارغ المضمون.
نعم هكذا يتحدثون لمجتمعهم رغم كل الظروف الاقتصادية المزرية وتبذير الأموال منذ عقود على أوهام مستحيلة، لكنهم يرونها منطقية. لا أحد تجرأ يوماً على تنبيههم أنهم على الطريق الخطأ. فهل سينالون نصيبهم من العقاب، مثل بطل الرواية، على يد الرعاة بعد أن قتل أغنامهم التي تخيّلها جيوشاً جرّارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبد الله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية و الأفريقية في صحيفة الحدث الأفريقي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً