بقلم الأستاذ سفيان حشيفة*
أسئلة الرّاهن في أوضاع السّاحل الإفريقي لا أجوبة لها إلى الآن، فهو يتخبّط في حُمَّى انقلابات عسكرية، وتجاذبات سياسية داخلية وخارجية لا قِبلَ لدولة بها، يزيده تعقيدًا عودة نشاط الجماعات الإرهابية العابر للحيّز الحدودي من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً.
إنّ المُتأمِّل للمشهد الحالي في منطقة السّاحل الإفريقي، لن يستوعب أبداً حجم الكارثة السياسية والتنموية التي حلّت في بعض بلدانه، وسيضرب كفّاً بكفٍّ من هول تشابكاته، وعملية خلط أوراقه بين اللاعبين القاريين والقوى الكبرى، مما يُهدّد مستقبل كياناته الخاضعة لطائل التدخلات الأجنبية، في ضوء احتمالية نشوب حربٍ إقليمية بالوكالة ستدفع إلى إشعالها فواعل باحثة عن المكاسب والمغانم لا أكثر.
تلك الأحداث مثّلت في الواقع انعطافاً خطيراً للجزائر؛ كونها تَتَّصل حدودياً بثلاث من دول السّاحل ألا وهي النيجر ومالي وموريتانيا، وتربطها علاقات وثيقة مع شعوب وقبائل المنطقة، حيث لعبت منذ البداية دوراً محورياً في إبعاد شبح الحرب عن بماكو ونيامي عقب خروج نظامهما عن الأطر الدستورية إثر انقلابين عسكريين، لاقا بالطبع استهجاناً إقليمياً ودولياً من دون تَلقِّي أيّ استجابات وتطمينات من العسكر.
وبما أنها دولة مؤسسات وقانون، نافحت الجزائر عبر المنظمات القارية الإفريقية والأممية عن حتميّة العودة للنظام الدستوري في النيجر ومالي وحتى بوركينافاسو التي طالتها هي الأخرى حمّى الانقلابات العسكرية، من أجل تجنيب السّاحل برمّته مخاضاً عسيراً شبيهاً بسيناريو التّحوّل الدموي في دولة ليبيا، التي بقي وضعها مقلقاً لجميع الفاعلين الدوليين رغم مرور ما يزيد عن ثلاث عشرة سنة على حدوثه؛ بسبب تدخُّل الغرب الجماعي وحلف الناتو عسكرياً للإطاحة بنظام العقيد القذافي.
وقد تقاطرت التدخلات الأجنبية وتضاعفت ضغوطات الجوار والغرب على عسكر السّاحل للتراجع عن التمادي في خرق الشرعية الدستورية لبلدانهم، وتلقّت دولة النيجر النصيب الأكبر من ردّات الفعل وصلت إلى حدّ التهديد بالتدخل العسكري من طرف فرنسا ومنظمة “إيكواس” أو ما يُعرف بالمجموعة الاقتصادية لبلدان غرب أفريقيا، لكن الجزائر بحكم جوارها الحدودي بنطاق الصّراع حالتْ أو أجّلت وقوع أيَّ خرقٍ أمني للمنطقة، من شأنه أن يُؤدِّي بها للمجهول ويرمي بشعوبها إلى مأساة إنسانية واجتماعية حقيقية.
وفي مقابل دورها الدبلوماسي الرصين لحل أزمة نيامي، زار وزير الشؤون الخارجية والنيجريين في الخارج، باكاري ياوو سانغاري الجزائر، قبل أسبوعين، لتثبيت رؤيتها السليمة والسلميّة للنزاع الحاصل، وإعادة الروح في مشروع الوساطة الجزائرية لحل الأزمة الذي تأخر قليلاً بسبب التدخل الخارجي تارةً، ومقاومة الرئيس محمد بازوم وشركائه بعد الانقلاب الذي أطاح به في نهاية جويلية/ يوليو الماضي تارةً أخرى.
وأشاد وزير الشؤون الخارجية النيجري سانغاري باعتباره مُمَثِّل المجلس العسكري الحاكم، بالدّور الذي قامت به الجزائر في تسوية أزمات بلده في الماضي، وبمستوى جودة العلاقات بين الدولتين الجارتين، وذلك عقب محادثته مع وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية في الخارج، أحمد عطاف.
ولم يتوقّف الضّيف النيجري عند الإشادة بجهود جمهورية الجزائر الحصيفة تجاه مشكلات البلد الجار، وإنما تطرّق أيضًا إلى الواقع السياسي المُستجد، ومساعي بلد الشهداء التي وصفها بـ “الحميدة” لحلّ المعضلات التي اعترضت النيجر، في مُعطى إيجابي يشي بوجود ثقة حقيقية بين الطرفين في معالجة الملفات الطافية على السطح، ومنها مأزق الانقلاب العسكري الأخير على الرئيس بازوم.
فضلاً عن ذلك، فإنّ عامل الثقة في مثل هكذا أزمات شديدة التعقيد، لا يتولّد من فراغ، بل من قناعة الطرف المتضرّر نحو المتدخل لفضّ النزاع، لأنّ نوايا اللاعبين الدوليين كثيراً ما حدّدت مستقبل أزمات بناءً على خبايا لم تُعلن في البداية، والجزائر باعتراف الفاعلين لا أغراضَ لها من محاولاتها إنهاء مشكلة انقلاب العسكر في النيجر، وقبله نجحت في إبعاد شبح الحرب عن مالي وبوركينافاسو، وحيّدت دولة ليبيا المُقسّمة عن حدوث صراع داخلي وإقليمي مُتشابك الأطراف.
ويشير التقارب والتعاون الوثيق بين الجزائر والنيجر في هذا الظرف الحساس، إلى توجّه البلدين إلى الذهاب نحو تسوية جادّة للوضع في النيجر سيمسُّ سياسياً وأمنياً مالي وبوركينافاسو مثلما هدّد المجلسين العسكريين فيهما، وستطال بشكل مباشر أيضًا بعض دول مجموعة “إيكواس” على غرار نيجيريا والسنغال وبنين.
وعلى هذا الأساس، فإنّ فسح المجال للجزائر لفضّ النزاعات الحادثة في الساحل سلمياً، من دكار غربًا إلى الخرطوم شرقاً صار ضرورياً جداً، فهي ليس لها أطماع سياسية أو اقتصادية خارج حدودها، ووساطتها أكثر قبولاً لدى الفرقاء السياسيين نظير نياتها الحسنة في إنهاء الصراعات، ودورها الهام في الحفاظ على سيادة ومصالح الدول المتضررة من النزاعات.
وهكذا فإن أزمة السّاحل أصبحت مثل الرمال المتحركة، التي تُبدِّل اتجاهها من حين لآخر حسب طبيعة التدخل الغربي، وستبتلع كلّ من يطَؤُها بقدميه إذا أخطأ اللاعبون غير المرغوبين حساباتِهم، وتمادَوا أكثر في العبث بهذه المنطقة الشاسعة وإلحاق الضرر بها وبجوارها المتأزم أصلاً أمنياً واقتصادياً منذ عقدٍ من الزمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ سفيان حشيفة – صحفي وكاتب سياسي جزائري
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً