بقلم الأستاذ حسن أحمد عبدالله*
حين تكون 68 في المئة من الدول العربية، إما دول فاشلة وإما على شفير التحول إلى هشة، فهذا يعني أن النخب والمؤسسات فشلت في إدارة الدولة، وحين لا تستفيد شعوبنا من دروس الماضي، لا سيما ما جرى خلال ثلاثة أرباع القرن الماضي، فهذا يدل على عدم القدرة على صياغة مشروع دولة، وأن كل الأفكار التي كتبت في العالم العربي كانت مجرد صدىً لا أكثر لمقاربات فكرية أوروبية، وغربية، ولم تؤسس لمشروع عربي، هذا من جانب.
من جانب آخر، فإن مشاريع الأحزاب العربية لم تعمل على ما يمكن أن يؤسس لدولة، لا سيما أنها كانت تتمظهر في صورة تقدمية، لكنها تستخدم أفكاراً رجعية، غير قابلة للتحقق، فإلى ماذا قادنا ذلك؟
اليوم يواجه العرب معضلة الحفاظ على الكيان، أو بالحد الأدنى عدم انفراطه، وهذا أيضاً يؤدي إلى تآكل سيادة الدولة على النحو الذي يضعها تحت الوصاية غير المباشرة، وما يجعل الحكومات تعمل بحالة ضعف.
في هذا الشأن ممكن أن نأخذ أمثلة من الواقع، فلبنان مثلاً، يعاني من أزمة اقتصادية وسياسية خانقة وضعف مؤسساتي، وهذا موروث منذ العام 1958، وليس وليد اليوم، وعلى هذا الأساس فإن الحرب الأهلية بين عامي 1975- 1991، كانت إحدى محصلات ذلك العجز، واليوم مع التآكل المستمر للسيادة فإن المعضلة باتت أكبر، وما يجري مجرد إدارة أزمة لا أكثر.
ليبيا، إذا اخذنا بعين الاعتبار أن المحاولات الجارية لتأسيس مشروع دولة فيها بعض الملامح لقوة فاعلة، أياً كانت هذه القوة، فإنها تصطدم بأطراف تعمل لمصلحة الخارج، وهذا يزيد من تآكل السيادة، التي هي اليوم محصورة في مؤسسات يمكن اعتبارها مجرد ديكور لفرض هيبة ما لدولة نظرية ليست موجودة في الواقع.
أما السودان، فمنذ إعلانه كدولة مركزية يعاني من ضعف المؤسسات، ويواجه التقسيم دائماً، لا سيما بعد انفصال الجنوب، واليوم من الصراع الدموي ورغبة دارفور بالانفصال، فهو يواجه صراعات داخلية وأزمات اقتصادية وبنيوية، وتحوله إلى كيان فاشل، لن يستطيع التغلب على مشكلاته، إلا إذا كانت هناك قوة داخلية واعية، تدرك أن الحل لا يكون إلا بالتخلي عن الخارج والتركيز على الداخل، وأن ما يمكن تحقيقه بالحرب يمكن أن يكون بالحوار الطويل، البعيد عن الانصياع للخارج.
الصومال، بالأساس، ومنذ بزوغ الدولة كان هناك ما يشبه التهميش للفئات الأخرى، بينما كان الحكم يقوم على نزعة فردية، ولهذا حين سقط نظام سياد بري اضمحلت الدولة، وبدأ الصراع يتشكل بوجوه متعددة، فيما التقسيم أصبح أمراً واقعاً.
العراق، منذ تأسيس الدولة في العام 1921، يعاني من إشكالية الهوية ومشروع الدولة، وهو أول بلد شهد محاولات انقلابية منذ العام 1938، ولا يزال يواجه تحديات أمنية وسياسية واقتصادية، وكيانية، بينما باتت وحدته مجرد شعار، لا سيما مع الحكم الذاتي لكردستان، ومطالبات شيعية وسنية بالانفصال.
اليمن، هذه الدولة قصة أخرى، فهي منذ وجودها ككيان تعاني من عدم وجود مؤسسات يمكنها تأسيس مشروع دولة، وهي تعاني منذ ماقبل الاستقلال من الحرب المباشرة أو غير المباشرة، ما جلب إليها حروب أهلية طويلة الأمد، وأزمات إنسانية كارثية، وانعدام السيادة، والقرار المستقل، وفراغ في السلطة.
هذه الأمثلة تدل على أن تآكل السيادة ليس وليد المرحلة الحالية، بل هو موجود منذ زمن طويل، وعلى هذا الأساس فإن ما يجري في سوريا حالياً، مثال على ما يمكن أن تؤول إليه الكيانات العربية من تغيير في الجغرافيا السياسية، وليس بالضرورة الطبيعية، ويمكن أن يتخذ أشكالاً متعددة، منها، ظهور كيانات انفصالية، مع الضعف الواضح للدولة المركزية، إذ تظهر جماعات مسلحة أو إثنية أو طائفية تسيطر على مناطق معينة، وتفرض سلطتها الخاصة.
ما يجري في سوريا اليوم أقرب مثال على ذلك، إذ رغم عدم وجود تغيير رسمي للحدود، لكن هناك خطوط تماس بدأت تتشكل، وما جرى في السويداء، وقبلها في الساحل السوري مع الطائفة العلوية، مؤشر على اضمحلال الدولة المركزية وتقسيم النفوذ.
هذا يشير إلى أن التغيير لن يقف عند حدود من يمسك القرار المركزي للدولة، بل إلى عدم قابليته على إدارة الدولة بكل معنى الكلمة، وأن التدخل الخارجي أصبح امراً واقعاً، لا يمكن لأحد نفيه، وكذلك لن تستطيع قوة محلية الإمساك بالقرار.
سورية تحديداً، مع الفسيفساء الإنثي والطائفي، تمثل نموذجاً عربياً صارخاً لما ستؤول إليه المنطقة، وكيف تنشأ خطوط تماس فعلية تفصل بين مناطق السيطرة المختلفة، وإلى نزوح جماعي للسكان، هذا يغير التركيبة الديموغرافية للمناطق المتأثرة ويخلق جغرافيا بشرية جديدة، كما حصل في لبنان إبان الحرب الأهلية، ولا يزال مستمراً، في وقت أخذت فيها بعض البلديات منع تملك أبناء الطوائف الأخرى في مناطق نطاقها الجغرافي في لبنان، ما أدى إلى تغيير التوازن الديموغرافي التاريخي.
ضعف الحكومة المركزية في سورية يفتح الباب أمام تدخلات القوى الإقليمية والدولية، التي تدعم أطرافًا مختلفة، وتعمل على تحقيق مصالحها الخاصة. وهذا يمكن أن يؤثر بشكل مباشر على السيطرة على الأرض والموارد، وفي بعض الحالات على المطالبات الإقليمية، كما أنها تشكل مناطق نفوذ لقوى خارجية داخل أراضي الدولة الضعيفة، مما يقوض سيادتها ويسهم في عدم استقرار حدودها.
إن كل هذا يجعل الخطوط الوهمية اليوم تتطور بمرور الوقت لتصبح حدوداً شبه دائمة في حال استمرار ضعف الدولة، فيما العرب يعيشون على رد الفعل، وهذا أفظع نكباتهم، لا سيما أن ما يكتب بالدم اليوم، يصبح لاحقاً واقعاً، وإذا أخذنا بعين الاعتبار تساقط أحجار الدومينو، فلن تكون هناك دولة عربية بمأمن بعد 15 أو 20 عاماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ حسن أحمد عبدالله – كاتب صحفي لبناني.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
