بقلم الأستاذ بشار مرشد*
المقدمة
الجاحظ، في كتابه البيان والتبيين، أدرك خدعة الكلمات: المديح الذي يُراد به التمجيد فقد يصبح هجاءً مستترًا. فالزيف يطلّ بوجهه الحقيقي خلف اللمعان، وتهوي الهيبة المزيفة تحت ستار الثناء.
اليوم، لا يختلف المشهد كثيرًا. فالهجاء المستتر بالمديح ليس سوى بهرجة وسط الدياجير. ما يلمع أمام العيون ليس إلا خدعة ذكية، اغتيالًا مجازيًا للشخصية عبر اختلاق منجزات وصفات وهمية مزيفة، وزينة بلا مضمون حقيقي. تلك التهكمات تتحول إلى سكين سلخ في جسد الضحية، أو قشة تكسر ظهر البعير، مكشوفة لمن يملك بصيرة في عالم المظاهر الزائفة، وبين الكلام والواقع، بين ما يُقال وما يُراد به فعلاً.
البهرجة كسلاح ناعم: من العلاقات الشخصية إلى الساحات السياسية
هذه الطريقة القديمة المستجدة لم تختفِ مع الزمن، بل تطورت واستُحدثت لتُستخدم على عدة مستويات: من العلاقات الشخصية إلى المؤسسات وحتى الدول. هنا، يُستعمل المدح المبهرج كسلاح ناعم، أشد فتكًا من غيره من الطرق، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وما تمنحه من مساحة شاسعة للتعليق والنقد.
عندما تتصفح التعليقات، تجد الضحك والتهكم والازدراء، وأحيانًا إبراز عكس ما يقصده المقال تمامًا، وهو ما يرغب الناشر أو الكاتب في تسليط الضوء عليه بشكل غير مباشر. فتتحول الشخصية المستهدفة إلى فريسة في مهب السخرية، بمعنى عامي: “اللي ما يشتري يتفرج”، بينما المشاهدون يضحكون على المسرحية، ويقفون متفرجين على التزييف والواجهة الزائفة، والضحية تتلألأ وسط الدياجير بلا مضمون حقيقي، وتفضح نفسها في كل حركة وكلمة أو تعبير.
دور الشخصية المستهدفة: مواجهة البهرجة بالوعي والصراحة
على صعيد الشخصية المستهدفة، إذا ما امتلكت أي حس من الوعي والإدراك، فعليها أن تضع حدًا لتلك البهرجة فورًا، وتصارح المجتمع بحقيقة الإنسان: أن البشر يصيبون ويخطئون، وأن كل إنجاز تحقق هو جزء من واجباتها ومسؤولياتها، وما قصّرت فيه تتحمل تبعاته. الصراحة في الاعتراف بالإنجازات والحدود الواقعية للقدرات، والإيمان بتداول السلطة، يفسح المجال للآخرين ويخفف من وقع التهكم المستتر.
بهذه الطريقة، تتحول الشخصية من فريسة في مهب السخرية إلى شخص واعٍ، قادر على تحويل التهكم والهجاء المستتر إلى فرصة للتوضيح والشفافية وإعادة بناء الثقة مع المجتمع. فالتعامل الصادق مع الزيف المبهرج يعيد للخطاب مصداقيته ويحد من استغلاله كسلاح هجائي.
أما إذا كانت الشخصية فظة وتعشق التملق والمدح الزائف، فهي بالطبع تفتقر إلى الوعي والإدراك للمخاطر المحدقة. في هذه الحالة، ستجد نفسها في السيل الجارف الذي يلقي بالجيف على هامش المستنقع، عاجزة عن مواجهة السخرية المستترة والهجاء المموه. وهكذا، يتحقق الهدف الحقيقي لكاتب المسرحية، الذي يسعى من خلال البهرجة والمدح الزائف إلى فضح الفجوة بين المظهر والواقع، وبين الكلام والنية، ويحوّل الثناء إلى أداة هجاء قاتلة للشخصية المستهدفة. إضافة إلى أداة الانتفاع والاسترزاق.
الخلاصة: بين الجاحظ وواقع البهرجة المعاصرة
من خلال ما رصده الجاحظ منذ قرون، نجد أن المدح الزائف والهجاء المستتر ليس مجرد لعب بالكلمات، بل أداة تكشف هشاشة الشخصيات والمجتمعات. اليوم، مع انتشار وسائل التواصل وتضخيم المظاهر، تتكرر نفس اللعبة، لكن بوتيرة أسرع وأثر أكبر، حيث يصبح المدح المبهرج سلاحًا مزدوجًا: يزيّن الكلام ويفضح الواقع في الوقت نفسه.
العين الثاقبة للشخصية الواعية تدرك ببساطة من خلال المقارنة بين الإنجاز والإخفاق، وتفهم حقيقة الهدف وراء كل بهرجة أو تملق أو امتداح زائف. الوعي والإدراك وحدهما ما يقي الشخص من الانجرار خلف البهرجة الزائفة، ويحوّل التهكم والهجاء إلى فرصة للتوضيح وإعادة المصداقية.
أما من يفتقد هذه الحساسية، فسيظل عاجزًا أمام السيل الجارف للتهكم المستتر، خاضعًا لمسرحية الكلمات الزائفة، فريسة سهلة للأوهام والمدح المزيف.
الخاتمة
ختامًا، يظل هذا درسًا خالدًا في فهم البشر والكلمات والسلطة والمظاهر. نعم، البهرجة والهجاء المستتر لن يزولا، لكن من يدرك قواعد اللعبة ويحتكم للصدق والتواضع، يظل سيد موقفه وسط الدياجير، قادرًا على مواجهة الزيف وتوضيح الحقيقة وبناء الثقة مع الآخرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ بشار مرشد – كاتب وباحث سياسي، بكالوريوس علوم إدارية واقتصادية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
