بقلم الدكتور يونس الديدي*
في قلب واحدة من أكثر الحروب وحشيّة في العصر الحديث، يخرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمطلب يفيض بالسخرية السوداء: نزع سلاح المقاومة الفلسطينية. كأنّ المطلوب من المحاصَر أن يوقّع شهادة موته، ومن الجريح أن يسلّم سكينه للجراح الذي لا يؤمن بالتخدير، بل يهوى التقطيع.
الطلب ليس جديداً، لكن توقيته لافت: اللحظة التي يعيش فيها الكيان الإسرائيلي واحدةً من أعقد أزماته السياسية والاجتماعية، حيث بدأت شقوق الداخل تتسع، وارتباك القيادة السياسية يتّخذ شكلاً يشبه الهذيان العقائدي.
لم يعد الصراع بين إسرائيل وغزة صراعاً على الأرض أو حتى السيادة. إنه صراع على الرواية، على الشرعية الأخلاقية، على من يُسمح له أن يتكلم، ومن يُفرض عليه أن يصمت. وفي هذا السياق، يصبح نزع السلاح ليس غاية عسكرية، بل محاولة لقتل الفكرة ذاتها: فكرة أن هناك شعباً يرفض أن يُمحى.
دولة تصدّعت من الداخل… وتحكمها أساطير الخارج
إن دولة تقوم على مزيج من الأساطير التلمودية والرأسمالية العسكرية، كان لا بدّ أن تصل إلى نقطة انفجار داخلية. حكومة نتنياهو ليست فقط أكثر الحكومات تطرّفاً في تاريخ إسرائيل، بل ربما الأكثر تناقضاً. تحالفات مذهبية، صراعات أيديولوجية، انقسام بين العلمانيين والمتدينين، وبين المستوطنين القدامى والجدد، وبين من يريد “إبادة غزة” ومن يخشى فقدان صورة إسرائيل “الديمقراطية” أمام الغرب.
وفي لحظة الهلع، يتشبّث هؤلاء ببقايا خطاب مسعور، يهتف لبناء “الهيكل الثالث” ويحتفل برقصة الهافانا في مشهد يشبه نهاية فيلم ديستوبي، لا جلسة أمن قومي في دولة “عاقلة”. هكذا يبدو أن الجنون لم يعد عرضاً جانبياً، بل بات جوهر الرؤية الإسرائيلية.
المقاومة لا تسلّم بندقيتها لمن يذبحها
في المقابل، لا يبدو أن المقاومة ستسقط في هذا الفخ. فهي تدرك، ربما أكثر من غيرها، أن المطلوب ليس البندقية، بل الكرامة. السلاح في السياق الفلسطيني ليس مجرّد أداة قتال، بل هو تجسيد لفكرة: أننا هنا، لم نُهزم بعد، ولن نغادر الحكاية.
طلب نزع السلاح، إذًا، هو طلب محو. هو محاولة لفرض النسيان، وتجميد الزمن على لحظة الهزيمة. لكنه لا يدرك أن في العالم تجارب أكبر من أن تُختزل. هل نسي نتنياهو أن المفاوضات مع مانديلا لم تبدأ إلا حين أدرك النظام العنصري في جنوب إفريقيا أنّ السلاح وحدَه هو الذي أنتج المعنى؟ هل تجاهل التاريخ القريب الذي جلس فيه الأمريكيون مع الفيتناميين، لا بعد نزع سلاحهم، بل بعد أن أُنهكوا منه؟
التاريخ لا يبتسم للضعفاء، ولا يعيد حقوق الذين يتنازلون عنها. بل يُعيد ترتيب موازين القوى لصالح من يصمد أطول.
صمت العالم… أم تواطؤه
المفارقة الأكبر ليست في طلب نتنياهو، بل في الصمت العالمي تجاهه. هذا الصمت، الذي يأخذ شكل الحياد في الخطاب الدبلوماسي، هو في حقيقته تواطؤ مع الجريمة. عشرات الآلاف من الضحايا، آلاف الأطفال، مشاهد تقشعر لها الأبدان… ولا تزال الأمم المتحدة تكتفي “بالقلق”، ولا يزال البيت الأبيض يُطالب بـ”ضبط النفس”.
لكن الشارع العالمي يتغيّر. ما لم تقله الحكومات، هتف به الناس في شوارع لندن ونيويورك وباريس. والرباط الصوت بات أكثر وضوحاً: هذه ليست حرباً، هذه مجزرة. وهذا ليس صراعاً، بل استعمار مستمرّ بلغة حديثة.
المقاومة… أكثر من سلاح، إنها مستقبل المنطقة
الرؤية الصهيونية للمنطقة تُبنى على وهم أن نهاية العالم قريبة،. في المقابل، تبني المقاومة خطابها على شيء أبسط وأعمق: الحياة. ليس الموت من أجل الكرامة، بل الحياة بها. ليس البحث عن الهيكل، بل عن بيت يُبنى بلا قصف.
لهذا، لن تُسلّم المقاومة سلاحها. ليس لأن البندقية تغريها، بل لأنها تدرك أن الطغيان حين يُحاصر شعباً أعزل، فإن السلاح يصبح لغة، وفلسفة، وموقفاً وجودياً.
ختامًا: لن يكون نزع السلاح نهاية، بل بداية مرحلة جديدة
ما يخشاه نتنياهو ليس السلاح، بل ما يعنيه بقاء هذا السلاح في يد المقاوم. لأن ذلك يعني بقاء الذاكرة، واستمرار الرفض، وتأجيل أي محاولة لإغلاق الملف الفلسطيني نهائياً.
وحين يُطالب الجلاد ضحيته بتسليم السكين، فإن الجواب لا يُكتب بلغة السياسة، بل بلغة التاريخ. والتاريخ، حين ينحاز، لا يفعل ذلك إلا للذين يملكون الجرأة على أن يقولوا: لا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور يونس الديدي – كاتب صحفي، محاضر وأستاذ جامعي، باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً