بقلم الدكتور محمد عياش*
جملة مهمة قالها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في كتابه المهم (فلسطين: سلام لا فصل عنصري Palestine: peace not Apartheid)، إنّه لن يكون هناك سلام حقيقي لـ «إسرائيل» من دون إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين، وهي مسألة يدركها المسؤولون في الغرب بعد تركهم لمناصبهم الرسمية، متأخراً جداً.
معركة ‘‘طوفان الأقصى’’ حاصرت الكيان الصهيوني وحلفاءه، وذلك بعد إماطة اللثام عن النيّات الصهيو- أمريكية تجاه الحل النهائي للقضية الفلسطينية، بالرغم من الاعتراض الشديد من الرئيس الأمريكي جو بايدن على تصريحات نتنياهو التي تعهّد فيها بعدم قيام الدولة الفلسطينية طالما بقي في الحياة السياسية، واعتراض بايدن خوفاً من تأزُّم العلاقات مع بعض الدول العربية الصديقة وأهمها بالطبع المملكة العربية السعودية.
قبل الشرح، لابدّ من وقفة عزٍّ، وإباء لأبطال المقاومة الأحياءِ منهم والشهداء الذين يسطّرون أروع الملاحم ضدّ جيش الاحتلال- الكامل إلا من العقيدة- هذا الجيش الذي يرتكب أبشع المجازر والمذابح بحقِّ أهلنا في فلسطين في القطاع والضفة الغربية والعدوان على سوريا واليمن والعراق، يدفع اليومَ فاتورةَ باهظةَ لم يتعود عليها طيلة الحروب السابقة.
يُروّج العدو الصهيوني لاعتداء السابع من أكتوبر تشرين الأول من العام الماضي على أنه سبب العنف ولا يعترف بأنه نتيجة المظالم لأكثر من 67 سنة من الاحتلال والحصار الجائر والممارسات الوحشية، وبذلك يضع خطاً فاصلاً لأحلام الفلسطينيين بإقامة دولتهم وعاصمتها القدس الشريف، ويصفهم بأوصاف لا أريد ذكرها، وتشبيهها بـ ‘‘داعش’’ الإرهابية ليضمن التحالفَ الدوليَّ في صفه.
إنّ أكبر الإشارات التي تُبشّر بقيام الدولة الفلسطينية، التعاطف الدولي والذي تُرجم على لسان الأمين العام للأمم المتحدة أنطوني غوتيرس الذي لم ينفك عن تحميل الكيان الصهيوني كامل المسؤولية، لم يركز غوتيرس على الإيديولوجية للمقاومة الفلسطينية باعتبارها تمثل التيار الإسلامي الراديكالي المرفوض بالمطلق من الغرب المؤيد للكيان الصهيوني، وهذه إشارة لا تقل شأناً عن سابقتها، بل اعتبرها نتيجة طبيعية للتعبير عن الظلم والجور.
تعصف بعصابة الاحتلال الكثير من المشكلات ابتداءً من اللقاءات المستمرة لما يسمى مجلس ‘‘الكابينت’’ و‘‘المكارثية‘‘ تبدو واضحة لا تخطئها العين. مروراً بالمظاهرات اليومية التي تطالب بالإطاحة بحكومة بنيامين نتنياهو، والقبول بأي اتفاق يضمن تبادل الأسرى حتى لو أدى لوقف إطلاق النار، وانتهاءً بالخلافات المتصاعدة مع الولايات المتحدة الأمريكية الحريصة على علاقاتها الآنفة الذكر.
إنّ مؤشّراتِ فشل إسرائيل، المضي في الحرب لآخر رمق، وهذا مخالف تماماً للاستراتيجية الصهيونية المعمول عليها طيلة فترة الاحتلال…. (فرعونُ مصرَ لمّا كان في أوج قوته، كان يرسل جيوشه وزبانيته إلى كل الأمصار عندما يشعر بخطرٍ ما، ولمّا قرر هو بنفسه أن يطارد موسى كانت نهايته الغرق في البحر..)؛ هذه القصة تشبه تماماً الحال مع مقاتلي المقاومة الفلسطينية بكل أطيافها، فإسرائيل بقضها وقضيضها ومناصريها في المعركة لاستشعارهم بالخطر الوجودي والحرج وفقدان الهيبة المزعومة وسياسة الردع.
يقول ما يسمى وزير خارجية الكيان، يسرائيل كاتس, بإمكانية نقل سكان غزة إلى جزيرة صناعية في البحر المتوسط -! هذا التصريح يؤكد عمق الأزمة التي تمرُّ بها دولة الاحتلال، حيث يفتقد التصريح للمنطق، وبالتالي يعتبر بالبارومتر للحال التي هم عليها قادةُ الاحتلال من هذيان وهستيريا تضرب حتى النخاع، وكلما اقتربت الانتخابات الأمريكية من موعدها زاد الضغط الأمريكي على الكيان ونفاد الفرص والمهل لسحق المقاومة، واستغراب الجيش الإسرائيلي من أنفاق المقاومة التي أوقعت الكثير من الضباط والجنود والعدّاد بازدياد لا يتوقف حتى اللحظة والحديث عن مفاوضات سترغم الكيان على الإذعان لمطالب المقاومة بالكامل.
اكتسبت المقاومة الكثير من المهارات في معركة طوفان الأقصى، ناهيك عن النجاح العلمي والتقني وخداع الجيش في رابعة النهار وتنفيذ الهجوم الذي أذهل العالم، والصور كثيرة للبسالة والتضحية والالتحام من مسافة الصفر التي تدخل كمصطلح سيرافق المقاومة الفلسطينية إلى يوم القيامة، كعمل لم يعتدْ عليه العدو الصهيوني طيلة الحروب السابقة، ولن يكون النهاية، فالمفاجآت القادمة ستكون صادمة وصادعة حتى تكتمل دورة تحرير التراب الفلسطيني بالكامل من هؤلاء العتاة والقتلة وشذاذ الأفاق.
العدو الصهيوني في أضعف حالاته، إلا في التدمير الممنهج الذي يطال المدنيين الآمنين، وهذه السياسة لن تفلت من العقاب القادم، لاسيما وأنها تمثُل لأول مرة أمام محكمة العدل الدولية في(لاهاي) وتنتظر النتائج أو ما ستقرره على ما تقترفه من مجازر ومذابح ترقى للإبادة الجماعية، فالأدلة دامغة وواضحة ودولة جنوب إفريقيا أعدت التقرير في 84 صفحة إعداداً مهارياً لا يمكن للكيان التهرب والتملص من الحقائق المسجلة، لأن حروب البوير التي قامت رحاها على أرض جنوب إفريقيا مع المرابين الذي قتّلوا ومثّلوا بالضحايا الأبرياء وذلك للاستيلاء على مناجم الألماس وجاءت الفرصة سانحة أمامهم للانتقام من أحفاد المرابين اليهود المتصهينين في فلسطين.
عندما تعظم التضحيات، وتزداد شراسة المعتدي، لابد من الصبح الذي يلي الظلام، وهذه القاعدة الغامضة في صدر التاريخ، الشر الذي ينتصر في البداية لكن نهايته حتمية، و«إسرائيل» لن تنجو من مكر التاريخ كما يقول الفيلسوف الألماني جورج هيغل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد عياش – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً