بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
ما زالت حكومة الكيان الصهيوني رغم كل ما قامت به تُرغي وتُزبد، وتهدّد وتتوعّد الفلسطينيين في غزة باجتياح قطاعهم، وتدمير بنيانهم، وتخريب أرضهم، وتعطيل مرافقهم وتغيير معالم مناطقهم، ثأراً وانتقاماً من حركة حماس، التي باغتتهم ونالت منهم، وصدمتهم وروّعتهم، وألحقت بهم خسائرَ ما كانوا يتوقعون يوماً دفعها، أو التعرّض لها في حياتهم أبداً، إذ اعتبروا أن زمن الهزائم قد ولّى، وحروب المفاجآت قد انتهت، والجيوش التي كانت تهددهم قد ضعفت وتفكّكت، وعقيدتها القومية قد تلاشت، وبات قادتها أصدقاءً لهم وحلفاءً معهم، ولا يوجد بعدهم من يتجرّأ عليهم أو يعتدي عليهم ويهدد أمنهم، فاطمأنّوا إلى قوتهم واستعلَوا، وركنوا إلى سلام المطبّعين معهم وبطشوا، واستفردوا بالشّعب الفلسطيني وقصفوا، ظانّين أنه ضعيفٌ وحدَه، وعاجزٌ بمفرده، وأنها مسألة أيامٍ ويسقط ويذعن.
إلا أن المقاومة الفلسطينية كذّبتهم والمواجهة فضحتهم، ووجدوا أنفسهم في رحى معركةٍ لا ترحم، وبين رجالٍ لا يهابون مواجهتهم ولا يتردّدون في قتالهم، ولا ينتظرون هجومهم بل باغتوهم بالهجوم، فانقضّوا عليهم في بلداتهم ومستوطناتهم، واقتحموا قواعدَهم ومقراتِهم العسكرية ومعسكرات تدريب جنودهم ومستودعات أسلحتهم، وخاضوا معركةً على مساحةٍ من الأرض هي ضعف مساحة قطاع غزة، على طول خمسين كيلو متراً وعمق ثمانين، قتلت فيها مئات الجنود والضباط، وساقت العشرات منهم أسرى إلى قطاع غزة، وأظهرت للعدو أنه وجنوده أضعف ما يكونون عند المواجهة، وأجبن ما يظهرون عندما يتقابلون وجهاً لوجه، بعيداً عن الطائرات التي تساندهم، والجدران التي تحميهم، والدبابات التي تقوّيهم.
لم يستفق العدو الصهيوني من هول الصدمة، ولم يتمكن من امتصاص حجم الضربة، ووقف مذهولاً صامتاً عاجزاً عن فعل شيءٍ أمام المقاومة، فبدأ بعد ساعاتٍ طويلةٍ بعد المعركة في قصف أهداف مدنية سكنية وشعبية في القطاع، ودمرت حمم صواريخه مدارسَ ومساجدَ وبيوتاً وأسواقاً، في قصفٍ أعمىً أهوجٍ وحشي، نفّذته طائراتٌ هجوميةٌ وبوارجُ حربية، تساندها مدافع الميدان والدبابات التي أحاطت بالحدود الشرقية لقطاع غزة فيما يشبه السور الحديدي، وأحدث القصف المتواصل المجنون ليلاً ونهاراً دماراً كبيراً في أرجاء القطاع، وتسبب حتى الساعات الأولى من اليوم الخامس على انطلاق معركة “طوفان الأقصى”، في استشهاد أكثر من 1000 فلسطيني، وإصابة أكثر من 5500، وما زال القصف مستمراً، تدميراً للمباني ومسحاً لبعضها من الوجود، ونقباً للأرض وحرثاً للشوارع والطرقات.
لا يبدو أن العدو سيتوقف عن قصفه، أو سيتراجع عن غيّه، فهو ما زال تحت هول الصدمة مشدوهاً ومذهولاً، فاقداً لعقله وغير مدركٍ لما يجري حوله، بعد أن أفقده طوفان الأقصى رشده وسلبه وعيه، فغدا كالثور الهائج يبحث عن هدف، ويتطلع إلى كسب، مدفوعاً بمشاعر الحقد وغرائز الانتقام الأسود، مما يرجّح أنه سيمضي قدماً في عملياته الوحشية التي بدأها، متسلّحاً بالولايات المتحدة الأمريكية التي تؤيّده وتشجّعه، وبدول أوروبا الغربية المريضة نفسياً التي تتفهّمه وتبرّر جرائمه، ومستفيداً من صمت الدول العربية وعجزها، التي لا تمارس دورها وكأن ما يحدث في غزة لا يعنيها وليس من شأنها.
لكن العدو يخطئ كثيراً أنه بهذا القصف المجنون المؤيّد بالصمت الدولي المخزي، والتأييد الأمريكي المعيب، يستطيع أن يجبر الشعب الفلسطيني الذي ذاق مرارة الحروب السابقة، وعاش ويلاتها، واكتوى بنيرانها، وتعرض لما يتعرض له اليوم، وأن يدفعه للخضوع والخنوع، والتسليم والاستسلام، والتخلي عن المقاومة، فهذا حلمٌ بعيد المنال، وغايةٌ مستحيلةٌ لن يدركها، فالفلسطينيون قد عرفوا عزة المقاومة، وشرف القتال، وذاقوا حلاوة النصر وكرامة القوة.
= = = = =
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً