بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
سأحاول في المقالة التالية تسليط الضوء على الحوارات الداخلية الشعبية الإسرائيلية، التي تتناول حجم الخسائر التي مُني بها الإسرائيليون خلال الستين يوماً الماضية، وهي حوارات صريحة وواضحة، وشفافة وبسيطة، كونها تجري بين العامة، ويتناقلها المستوطنون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتستطيع أن تتخلّص من قوانين الرقابة العسكرية التي تحاول فرض رواية أحاديّة الجانب، تجافي الحقيقة وتقفز على مشاعر المستوطنين وتصادر وجهات نظرهم، وتحول دون ظهورهم في الوسائل الإعلامية.
علماً بأنّ الرأي العام الإسرائيلي في تغيّرٍ مستمرٍ واضطرابٍ لافتٍ، ويشهد على ذلك استطلاعات الرأي المختلفة التي تُظهر تَردّي سمعة الحكومة وتراجع مصداقيتها، وتراجع التأييد الشعبي للعمليات العسكرية، والدعوات المتزايدة لوقف الحرب والانشغال باستعادة الأسرى وعودتهم أحياء إلى بيوتهم.
لم يستفقِ الإسرائيليون بعدُ من هول الصدمة، وما زال أكثرهم تحت تأثير الحادثة، ولم يتمكّنوا رغم مضي أكثر من ستين يوماً من استعادة وعيهم وضبط قرارهم والتحكم في سلوكهم، فقيادتهم مضطربة، ومجلسهم الحربي مختلفٌ، وجبهتهم الداخلية متصدّعة، وصورتهم الخارجية مشوّهةٌ، وروايتهم الرسمية مُكذّبة، وتحالفاتهم الدولية متذبذبة، وعلاقاتهم الرسمية مضطربة، ومكانتهم الدولية مهتزة.
ذلك أن العملية التي فاجأتهم بها حركة حماس والمقاومة الفلسطينية ما زالت ضاغطة، وتداعياتها مستمرة، ونتائجها كثيرة، وآثارها كبيرة، ولا يبدو أنهم سيخرجون منها قريباً، أو سيتعافون من آثارها حتماً، ولو أن بعضهم يرى أن الخروج منها مستحيل، والتخلص من نتائجها أمرٌ صعبٌ، وأنها ستبقى علامةً فارقة في تاريخ الدولة العبرية، وربما في تاريخ الشعب اليهودي، بالنظر إلى آثارها القريبة والبعيدة المدى، والنفسية والمادية، والمباشرة وغير المباشرة، فما أصابهم كان فوق التصور والخيال، وقد جاء في أوج الإحساس بالقوة ويقين التفوق وغطرسة الهيمنة والسيطرة والاستعلاء.
لهذا فإن نقاشاَ عميقاً يدور بين المستوطنين الإسرائيليين حول الأثمان التي جبتها منهم المقاومة الفلسطينية، والضريبة التي أجبرتهم على دفعها، والحالة التي أوصلتهم إليها، ويبدو أنهم يتحاورون بجديةٍ ومسؤوليةٍ، فلا يخفون شيئاً مما يشعرون به، ولا يتظاهرون بالكسب في ظل الخسارة، ولا يحاولون تزيين الواقع وتزوير الوقائع، إذ أنهم يتحدثون عن أحوالهم مع بعضهم البعض، ويصفون لأنفسهم الظروف التي يعيشونها، الأمر الذي يجعل تقييمهم موضوعياً، وعرضهم منطقياً، كونه يعبّر بصدقٍ عن حقيقتهم، ويبتعد فعلياً عن الرغبات والأماني الخاصة بنا.
يصف الإسرائيليون “عملية طوفان الأقصى” التي يطلقون عليها اسم “هجوم حماس على النقب الغربي”، بأنها هزّة دراماتيكية عنيفة، وأنها مأساةٌ وانكسارٌ، وأنها كسرت لدى عامة الشعب الثقة والأمل، وصدّعت قواعد الإيمان، وأصابت النموذج والمعتقدات، وضربت مفاهيم اليقظة والحذر، والاستطلاع والتنبّؤ، وحطّمت أساطير الرصد والمراقبة، وكشفت هشاشة الجاهزية والتفوق، وأظهرت الانفصام في شخصية رئيس الحكومة الذي يبدو أنه يتعاطى عقاقيرَ منشطة، وأعضاء حكومته الذين يعيشون واقعاً آخر.
يستعظم الإسرائيليون الذين فقدوا ميزان القوة والردع، و مادت الأرض تحت أقدامهم وهدّدت وجودهم ومستقبل كيانهم، ما جبته المقاومة الفلسطينية منهم، فيجدون أنهم تكبّدوا في ساعاتٍ قليلةٍ أكثر من 1300 قتيل، وآلاف المصابين نفسياً وجسدياً، ومنهم من لا يُرتجى شفاؤه، وكثيرٌ منهم من العسكريين النظاميين والاحتياط، ومن الجنود والضباط الذين قتلوا في ثكناتهم ومهاجعهم.
ويتباكَون على أكثر من ثلاثمائة أسيرٍ نقلوا إلى قطاع غزة، قُتِل منهم نتيجة عمليات القصف التي قام بها جيشهم أكثر من ستين أسيراً، وتمّ بالتفاوض استعادة أكثر من سبعين أسيراً من النساء والأطفال، ولكن بقي لدى المقاومة في أماكن سرية في قطاع غزة، أكثر من 130 أسيراً منهم، هم من كبار قادة وضباط فرقة غزة، ومعهم جنودٌ ومجنداتٌ لا يعرف مصيرهم، ولا يبدو أن عودتهم إلى عائلاتهم سهلة، ما لم تقبل الحكومة ورئيسها بدفع أثمانٍ مقابل حريتهم.
لم يتوقّف مسار القتل الآخذ صعوداً وهو ما يقلق الإسرائيليين، بل بدت المعارك تشي باستمرار الخسائر البشرية النوعية، في ظل سيطرة وتحكم عناصر المقاومة الفلسطينية على الأرض وفي الميدان، وتنامي قدراتهم القتالية التي تعبّر عن الثقة والثبات، إذ تجري أغلبها وجهاً لوجه، وتدور رحاها على أرض الميدان وفي مواجهة الآليات والدبابات من نقطة الصفر، الأمر الذي يعني أنّ سجل الجباية ما زال مفتوحاً، وحصاد القتال يغدو مع الوقت أكثر مرارةً وأشد إيلاماً كما سنرى فيما سيلي.
لم تكتفِ حركة حماس من وجهة نظر عامة الإسرائيليين بجباية الأرواح، إذ قتل مقاوموها خلال المناورات البرية أكثر من مائة جنديٍّ وضابط، وأصابوا أكثر من خمسة آلاف بجراحٍ مختلفة، وذلك وفق إحصائيات الجيش التي يشككون في مدى صحتها ومصداقيتها، ويظنون أنّ قيادة الجيش تخفي عنهم حقيقة الخسائر التي هي أعلى بكثير مما هو مُعلن.
إلا أنها جبت أشياء أخرى قوامها الخوف والقلق والتوجس، الذي سيطر على عامة المستوطنين وطغى عليهم، وبات من الصعب التخلص من عقدة الخوف والرعب التي زرعها عناصر القسام في نفوسهم، وقد خلت بلدات الغلاف كلها حتى عمق أربعين كيلومتراً من ساكنيها، ومثلها بلدات الشمال التي لم يعد إليها أهلها، ولا يبدو أن أحداً في الشمال أو الجنوب سيعود، ما بقي حزب الله في الشمال يهدّدهم، وحركة حماس في الجنوب تتوعّدهم.
كما جفّفت المقاومة الفلسطينية الشارع الإسرائيلي من الشباب والقوى العاملة، بعد استدعاء أكثر من ثلاثمائة ألفٍ من الاحتياط، بالإضافة إلى 170 ألف جندي في الخدمة النظامية، ولا يوجد من يعوّض عنهم من الأيدي العاملة الفلسطينية التي اضطرت أو أجبرت على العودة إلى بيوتها، مما أثّر على الاقتصاد وسوق العمل والإنتاج العام في البلاد، في أسوأ أزمةٍ اقتصادية يشهدها الإسرائيليون، ولا يوجد ما يبشّر بقرب علاجها، رغم تدخل البنك المركزي والدفع باحتياطاته الاستراتيجية إلى الأسواق، فضلاً عن الدعم الأمريكي المباشر، ومحاولات حقن الاقتصاد بحلولٍ عاجلة ومسكناتٍ سريعة.
كما يعترف الإسرائيليون بأنّهم لن يستطيعوا دفن رؤوسهم في الرمال كالنّعام بعد انتهاء الحرب، فصورتهم لدى دول العالم أصبحت صورة مقيتة ظالمة قاتلة، وقد ظهر جيشهم وهو يقتل الأطفال والنساء والشيوخ ويدمر معالم الحياة، ويقضي على كل صور العيش الكريم، في أبشع المجازر والمذابح التي ارتكبت ضد الإنسانية في العصر الحديث، ويعتقدون بأن عشرات السنوات القادمة، لن تكفيهم لردم هذه الهوة، وطمس الصورة التي أحدثتها آلتهم العسكرية الوحشية، وسيكونون ملزمين أمام العالم لتقديم إجاباتٍ عن مستقبل الفلسطينيين الذي دمروه وأفسدوه.
أما بالنسبة لعملية التطبيع الواسعة التي منّوا أنفسهم بها مع الدول العربية والمملكة العربية السعودية، فقد ذهبت أدراج الرياح، ولم يعد ممكنا للدول العربية مواصلة الخطوات التي بدأت بها، بل إن الدول العربية التي ترتبط مع إسرائيل باتفاقيات سلامٍ قديمة، أصبحت أقرب إلى تجميدها أو الانسحاب منها، وقد حذرت مصر والأردن من أن الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تهدد استمرار اتفاقيات السلام معها.
ومن جهةٍ أخرى يقرّ الإسرائيليون أنّ قيادتهم السياسية قيادة غير حكيمة، وأنها لا تعمل لصالحهم ولا لمستقبل كيانهم، بل هي قيادة شخصية نرجسية أنانية متغطرسة، لا يفكر رئيسها إلا في مصلحته وفي بقائه رئيساً للحكومة، وفي مستقبله السياسي وائتلافه الحاكم، ولا يعنيه استنزاف الشعب أو قتل الأسرى ، إن لم يكن يريد فعلاً الخلاص منهم، والتحرر من المسؤولية عنهم، ليطلق يد جيشه أكثر في الإمعان ضد الفلسطينيين والإثخان فيهم، وهو بدلاً من استنقاذهم واستعادتهم بأثمانٍ أقل، يضطر إلى التضحية بحياة جنوده وكبار ضباطه، الذين يقتلون في شوارع غزة دون أدنى إنجازٍ يحلمون به.
كما يبدي الإسرائيليون وهم الأغلبية قلقهم الشديد من سياستي بن غفير وسموتريتش، الذين يرعيان الإرهاب الرسمي للدولة، ويشجعان المستوطنين على حمل السلاح ومهاجمة الفلسطينيين والاعتداء عليهم، وقد غدا الشارع الإسرائيلي مسلحاً، وأصبح حمل السلاح في الشارع مشروعاً، الأمر الذي يسهل اندلاع حربٍ أهليةٍ في حال اشتعال فتيلها، ووقوع خطأٍ غير محسوبٍ قد يؤدي إلى انفجارها، ولا يوجد ما ينفي وقوع هذا الاحتمال في ظل تردي الأوضاع العامة، وإصرار الحكومة ورئيسها على مواقفهم، وتمسكهم بالسلطة ورفضهم دعوات الاستقالة والدعوة إلى انتخاباتٍ مبكرة، مخافة التحقيق والمساءلة ورفض اتهامهم بالتقصير، وتحمل المسؤولية عما جرى.
لسان حال الإسرائيليين يقول إن ما جبته حماس منا أكبر من قدرتنا على احتماله، وأكثر بكثير مما رصدته أجهزتنا ومؤسساتنا، وما ستظهره الأيام أكثر بكثير مما جبته بالدم والنار، فقد أسست حماس لمستقبلٍ جديدٍ للشعب الفلسطيني والمنطقة، ووضعت حداً فاصلاً لتفوق إسرائيل وهيمنتها، وأرست قواعد مرحلةٍ جديدةٍ قد لا يكون فيها لإسرائيل موطِئ قدم، أو حق الوجود والبقاء، بينما وضع الفلسطينيون أقدامهم على عتبة الخلاص، وبداية الانعتاق واستعادة الحقوق والعودة إلى الأرض والديار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً