بقلم الأستاذ سعيد علّام*
على مدى عامين، تعددت التحليلات السياسية التي تناولت أهداف الحرب على غزة، وبالرغم من تنوعها وكثرتها، إلا أنه من المدهش أنها جميعاً لم تتناول أحد أهم الأهداف الاستراتيجية لهذه الحرب، بخلاف أهدافها الأخرى!
على مدى حوالي ثلاثة عقود بدءًا من أوائل النصف الثاني من القرن الماضي، فشلت كل محاولات التطبيق الكامل للنظرية النيوليبرالية الاقتصادية في العديد من دول العالم، بدءًا من بلد المنشأ الولايات المتحدة الأمريكية. في عام 1983، اكتشف ميلتون فريدمان وصبيانه من جامعة شيكاغو، اكتشفوا في تشيلي تحت حكم الديكتاتور الجنرال فرانكو، القانون الحاكم الحتمي لتطبيق النظرية النيوليبرالية تطبيقاً كاملاً غير منقوص، القانون المتمثل في ضرورة أن تسبق الصدمة الاقتصادية الناجمة عن التطبيق الكامل للسياسات النيوليبرالية الاقتصادية المصممة للأثرياء على حساب مصالح باقي الشعب، لابد أن تسبقها صدمة أمنية كبرى، تجعل السكان في حالة خوف وهلع، غير مؤهلين لمقاومة صدمة ثانية، صدمة تطبيق السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، تطبيقاً كاملاً، تلك الصدمة الأولى التي جعلت جل أهتمام السكان في تشيلي، يتركز في الحفاظ على حياتهم وحياة أبنائهم، بعد أن رأوا جثث أكثر من 30 الف ناشط أغلبهم من اليساريين، تركهم الجنود بعد قتلهم ملقين في الشوارع حتى يراهم السكان وهم ذاهبون لأعمالهم في الصباح، فتحدث الصدمة الأمنية الكبرى، وقد نجحت بالفعل، ولم تحدث أي مقاومة للصدمة الثانية، الصدمة الأقتصادية النيوليبرالية.
هذا بالضبط ما أنجزته المحرقة في غزة على مدى عامين، في جانب منها، أنجزت الصدمة الأمنية الكبرى، الحتمية لتمرير الصدمة الاقتصادية النيوليبرالية، وقد انُجزت الصدمة الأمنية الكبرى ليس بالنسبة للشعب الفلسطيني فقط، بل أيضاً وبالأساس، لشعوب الشرق الأوسط، وخاصة شعوب المنطقة العربية بالذات، فقد ظلوا يشاهدون المحرقة على مقربة منهم، على مدى عامين على الهواء مباشرة، ليلاً ونهاراً، وحينئذ أصبحوا مؤهلين لعدم مقاومة تمرير الصدمة الثانية، الصدمة الاقتصادية النيوليبرالية، لتمر دون مقاومة، لا مسلحة ولا غير مسلحة.
ووفقاً لقانون النظام الرأسمالي العالمي، الذي ينص على أنه عند كل أزمة دورية للنظام الرأسمالي العالمي لا يمكن حلها على حساب خزائن الأثرياء، يمكن حلها فقط، على حساب الشعوب، ومع اشتداد تضخم وتمركز رأس المال المالي العالمي بعد الحرب الأمبريالية الثانية، أشتدت ازمة النظام المالي العالمي، لتصبح الحاجة أكثر إلحاحاً لإخضاع المنطقة التي تأخر إخضاعها كثيراً للسياسات الأقتصادية النيوليبرالية، منطقة الشرق الأوسط، فوجب إخضاعها لهذه السياسات، والتي شكلت محرقة غزة فرصة ذهبية لإحداث الصدمة الأمنية الكبرى الحتمية لتمرير الصدمة الاقتصادية النيوليبرالية، لكل منطقة الشرق الأوسط دفعة واحدة.
في هذا السياق فقط:
1-يمكن تفهم، حالة الإجماع الوحشي لتكتل أنظمة دول حلف اللصوص العالمي، التي تأتمر بأمر تحالف رأس المال المالي العالمي، ضد مقاومة محدودة، بالرغم من شجاعتها الغير محدودة، ولممارسة إبادة وحشية غير مسبوقة على مدى عامين لشعب أعزل في بقعة صغيرة بحجم غزة، لتجعل منها معمل تفريخ وعرض حي مباشر للصدمة الأمنية الكبرى على مشاهدي المنطقة.
2-يمكن تفهم، حالة السعار لنزع سلاح المقاومة، كل مقاومة مسلحة في المنطقة، حتى لا تتحول الى نموذج يحتذى به لدى شعوب العالم، فليس هناك من سبب لتكاتف كل تجار الموت، مصاصي دماء الشعوب، ضد المقاومة الفلسطينية بهذا الشكل الغير مسبوق، وتخليهم، هذه المرة، عن حيادهم الشكلي السابق، ليس من سبب لذلك السعار الجماعي، سوى رعبهم وفزعهم الشديد من ان يؤدي هذا “النجاح” الفريد الذي حققته المقاومة في المنطقة، تحوله الى “نموذج” يحتذى به لدى كل مقاومي شعوب الأرض المنهوبة والمقهورة. واذا ما كان المطلوب شرق أوسط نيوليبرالي، فإن تنفيذ سياسات نيوليبرالية تزيد فقر الشعوب، لا يمكن تمريرها في وجود مقاومة مسلحة، لذا يجب نزع سلاحها.
3-يمكن تفهم، حالة العداء المستمر والغير مبرر لإيران، بسبب عدم خضوعها لتطبيق السياسات الإقتصادية النيوليبرالية، وإنتهاجها لسياسات التنمية المستقلة من ناحية، ومن الناحية الأخرى، دعمها المستمر لكل قوى المقاومة المسلحة التي تعادي الإستعمار في المنطقة.
4-يمكن تفهم، البند 22 المخفي في خطة ترمب، الشرط المخفي من الخطة ومؤداه، من كانوا يدعمون المقاومة، عليهم أن يتوقفوا عن دعمها، فالحرب انتهت!. وعليهم ان يقتنعوا بأن المقاومة لا تفيد وعليهم أن يتوقفوا عن دعم مقاومة أي مستغل، أجنبي أو محلي، لأن كل جرائم المستغل ستصبح مسئوليتهم، وفقاً لسردية اللصوص العالميين ووكلاؤهم الأقليميين والمحليين. ولتأتي خطة ترمب في حقيقتها ليس لإنهاء الحرب على غزة، بل لإنهاء المقاومة المسلحة في المنطقة، الخطة التي ليس بها سوى بند واحد محدد الموعد وهو تسليم الاَسرى الأسرائيليين لدى المقاومة خلال 72 س، أما باقي البنود “الوعود”، فموت يامصدق!.
5-يمكن تفهم، البداية المبكرة لخناقة الضباع المفترسة على جثة غزه وشعب غزه، على مقاولة غزه التريليونية، وفقاً لقانون رأس المال المتوحش “يجب البدء في جني الأرباح، قبل أن تجف الدماء على الأسفلت”.، فقد بدأ الصراع يشتد مبكراً بين مقاولتي “ريفيرا الشرق” بقيادة رأس المال الأمريكي، وبين مقاولة “أعادة الأعمار” لرأس امال الأوروبي، الصراع الذي تجسد في تراجع وزير الخارجية الأمريكي عن حضور مؤتمر باريس “تعمير غزة”، المؤتمر الذي عقد حتى قبل إعلان وقف إطلاق النار في غزة!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ سعيد علّام – إعلامى مصري، معد ومقدم برنامج، كاتب مستقل.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
