بقلم الأستاذ سفيان حشيفة*
لم يكن البيان الذي أطلقته جبهة التحرير الوطني في الفاتح من نوفمبر عام 1954، معلنةً اندلاع أعظم ثورة في التاريخ الحديث، مجرد وثيقة عادية للإعلام وإيقاظ الضمائر، بل كان صك حرية ومشروع بناء حضاري ألهم كل دول العالم، التزمت به الجزائر بعد الإستقلال لتشييد جمهورية ديمقراطية شعبية بطابع اجتماعي، وذات سيادة وحظوة سياسية بين الأمم.
بعد الاستقلال سنة 1962، شهدت الجزائر إرهاصات وتحدّيات جمّة بلورت طبيعة كيانها السياسي الجديد القائم على التنمية الداخلية الشاملة، واستقلالية القرار الداخلي والخارجي، ومساندة قضايا التحرر العادلة في العالم، على غرار القضيتين الفلسطينية والصحراوية، المتداولان في أجهزة الأمم المتحدة على أساس أنهما قضايا تصفية استعمار.
وقد عرفت الجزائر خلال مسار بناء مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة تحوّلات سياسية واقتصادية متنوّعة، بدأت ببناء مؤسسة عسكرية قوّية وعصرية تتمثل في الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني، وإقرار تأميم الموارد الطبيعية كالمحروقات والمناجم، وتطوير الزراعة الموطنية، وبناء سد أخضر ضخم لمواجهة ظاهرة التصحر، وإحداث طفرة في الصناعات الخفيفة والثقيلة، وتقديم خدمات اجتماعية مجانية شاملة للمواطنين تشمل العلاج والتعليم القاعدي والجامعي عالي المستوى، إلا أنها تعززت أكثر بعد وصول رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، إلى سدة الحكم نهاية سنة 2019.
وواصل الرئيس تبون في السنوات الخمس الأخيرة، الإصلاحات القطاعية على النهج النوفمبري الأصيل، واستنهض الإقتصاد الوطني وبوّأه الصدارة إفريقيًا ومتوسطيًا من حيث مستويات النمو العالية، وفعّل الدبلوماسية الخارجية وأعاد لبلد الشهداء مكانته ومهابته في المعترك الدولي، ورسّخ اجتماعية الجمهورية وجعل فيها المواطن أساس كل البرامج التنموية، وأبدى اهتمامًا بالغًا بترقية المعيشة في الولايات الداخلية والجنوبية والحدودية.
وكانت مرحلة الرئيس الراحل المجاهد القائد هواري بومدين، الأهم في تاريخ البلاد؛ لأنها شهدت إصدار قرار تأميم المحروقات التاريخي والحاسم في عام 1971م، وتشييد العديد من المنشآت للصناعات الثقيلة في مختلف التخصصات، وإنشاء مؤسسات حكومية إقتصادية كبرى، مما مكّن الجزائر من ولوج مجال التصدير بدلاً عن الاستيراد في تلك الحقبة من السبعينيات، وهو نفس النهج الذي يسير به الرئيس الحالي، السيد عبد المجيد تبون.
إل ذلك، عرفت الديناميكية الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر المنتصرة، بالسنوات القليلة الماضية، تسارعًا كبيرًا، بفضل إصلاحات الرئيس تبون، الذي وضع التنمية والعدالة الاجتماعية في صميم برامجه، من خلال تحفيز قطاع الإستثمار، وتشجيع المستثمرين من الداخل والخارج على إنجاز مشاريع منتجة في القطاعات غير الطاقوية، وحماية الإنتاج المحلي وتطويره، وتنويع مصادر دخل الإقتصاد الوطني، وتسهيل إنشاء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والناشئة وتمويلها، ورفع الأجور ومنح المتقاعدين ومعاشات الفئات الهشة، وإطلاق مشاريع سكنية مليونية في مختلف الصيغ كالإجتماعي والترقوي المدعم والريفي والتحصيصات الأرضية، وغيرها من البرامج التنموية الكبرى التي مسّت كافة المجالات.
ومن جانبه، اكتسب الجيش الوطني الشعبي مكانة خاصة في قلوب ووجدان الشّعب الجزائري، كونه سليلاً لجيش التحرير الوطني الذي خاض ثورة عظيمة ومعركة وجودية ضد الاستعمار الفرنسي الغاشم، ولقّنه درسًا في فنون الحرب، وهزمه شر هزيمة في ساحات الوغى، دافعًا ملايين الشهداء في سبيل نيل حرية مضرجة بالدماء، واستقلال نفيس لا يقدّر بثمن من أجل أن تحيا الجزائر الموحدة سيّدة وشامخة بتاريخها وحضارتها العريقة.
المؤسّسة العسكرية في الجزائر، تعتبر ركنًا أساسيًا من أركان الجمهورية، وجهازا مقتدرًا ضامنًا لقوتها واستقرارها وهيبة جانبها، وحافظًا أمينًا لمقدراتها ومؤسساتها وحدودها، وداعمًا وفيًّا لا يتوانى في صون منجزاتها التنموية الكبرى، ومسايرة تطلعاتها الاقتصادية ومشاريعها القومية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وأدّى الجيش الجزائري منذ الاستقلال واستعادة السيادة الوطنية عام 1962، واجبه الدستوري بكفاءة عالية، وحافظ على أعلى درجات اليقظة والجاهزية القتالية لصدّ المؤامرات التي طالت بلد الشهداء، لاسيما خلال العشرية السوداء ومكافحة الإرهاب الهمجي، وخرج ظافرًا منتصرًا من كل المعتركات، وكان له الفضل في حماية الجمهورية ومؤسّساتها من الدسائس الداخلية والخارجية.
وظلّ السليل على مدى العقود الماضية، وفيًّا لمبادئ بيان ثورة أول نوفمبر 1954 الخالدة في التاريخ، مواكبًا مستجدات وتحديثات الفضاء العسكري الدولي على جميع الأصعدة تقنيًا وتسليحيًا وتدريبيًا، وأخذ بموجبات التكوين العصري وأسباب القوة والاحترافية حتى تبوّأ اليوم مراتب الصدارة قاريًا وإقليميًا في تصنيفات أقوى جيوش العالم.
وفي إطار رفع الجاهزية القصوى والكفاءة العالية لأفراده، يسهر الجيش الوطني الشعبي على تنفيذ تمارين بالذّخيرة الحية من حين إلى آخر لكل وحداته البرية والجوية والبحرية، على غرار تمريني “صمود والحصن المنيع 2025”، اللّذين قام بهما بنجاحٍ باهرٍ في نهاية شهر ماي الفارط، بإشراف الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أوّل السعيد شنقريحة، وهو ما رسّخ بالدليل الواضح قوّة ردع إقليمية إستراتيجية جبّارة لدى السليل، أبان فيها عن قدرات متعاظمة للوحدات المقاتلة، ودقّة تصويب لا متناهية، وسرعة فائقة في تنفيذ المهام الحربية الموكلة في كل ظروف المعركة الحقيقية، وما يطرأ عليها من مستجدات اشتباك تقنية وتكنولوجية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ سفيان حشيفة – صحفي وكاتب سياسي جزائري
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
