بقلم الدكتور محمد حساني*
جاءت اتفاقية شرم الشيخ لوقف إطلاق النار في غزة لتعيد مصر إلى قلب المشهد الإقليمي من جديد، في لحظةٍ بالغة التعقيد تتقاطع فيها الحسابات الإنسانية مع توازنات النفوذ الإقليمي والدولي. فبعد حربٍ مدمّرة خلّفت آثارًا إنسانية واقتصادية عميقة، وجعلت من غزة بؤرة اختبار لإرادة المجتمع الدولي، أعادت القاهرة تثبيت نفسها كقوة إقليمية قادرة على ضبط إيقاع الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، مستندة إلى رصيد طويل من الخبرة التراكمية في إدارة ملفات السلام والتسويات، من تجربتها التاريخية في كامب ديفيد إلى وساطاتها المتكرّرة في جولات التصعيد بغزة خلال العقدين الأخيرين.
لكن الجديد هذه المرة هو أن مصر لم تتعامل مع الملف بوصفه وساطة ظرفية لإنهاء جولة عنف جديدة، بل كمنصة لإعادة صياغة موقعها في خريطة الشرق الأوسط المتحوّلة. فهي تدرك أن إسرائيل تمتلك سجلًّا طويلًا في التحلّل من التزاماتها، وأن أي اتفاق لا تحيط به ضمانات دولية حقيقية سيظل هشًّا أمام تبدّل موازين القوى الميدانية.
لذلك، سعت القاهرة إلى تحصين اتفاق شرم الشيخ سياسيًا ودبلوماسيًا، عبر توسيع قاعدة الأطراف الضامنة، بحيث لا يكون مجرد تفاهم ثنائي بين طرفين متنازعين، بل إطارًا دوليًا يجد كل طرفٍ نفسه مُلزَمًا باحترامه. بهذا التوجّه، أرادت مصر أن تُخرج الصراع من حدود الميدان إلى دائرة الالتزام الدولي، وأن تجعل من وقف النار خطوة ضمن مشروع أشمل لإعادة هندسة معادلة الاستقرار الإقليمي.
إدراك مصري لطبيعة المعضلة
منذ عقود، تعلّمت مصر من تجربتها الطويلة أن إسرائيل تتعامل مع الاتفاقيات بمنطق المنفعة المرحلية؛ تلتزم حين يخدم ذلك مصالحها، وتتراجع حين ترى الكلفة أعلى من المكسب. لذا لم يكن غريبًا أن تبني القاهرة مقاربتها هذه المرة على مبدأ الوقاية المسبقة لا العلاج اللاحق. لقد حرصت على نقل الاتفاق من مستوى التفاهمات الثنائية إلى إطارٍ دولي أكثر صلابة، يُشرك قوى كبرى كأطراف متابعة ومراقبة مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا. فوجود هذه الدول لم يكن مجرد حضور بروتوكولي، بل جزءًا من هندسة سياسية متكاملة تهدف إلى جعل خرق الاتفاق كلفةً على إسرائيل أمام المجتمع الدولي، لا مجرد أزمة يمكن احتواؤها مصريًا.
تدويل الضمانات
بدت القاهرة في اتفاقية شرم الشيخ وكأنها تُعيد رسم منهجها التفاوضي من جديد. فبدل الرهان على النوايا أو الوعود، اختارت نهجًا يقوم على الرقابة الدولية والالتزام المتعدد الأطراف.أرادت مصر أن تُخرج الاتفاق من الدائرة الثنائية الضيقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى فضاء أوسع، حيث تصبح مسؤولية التنفيذ موزّعة بين مجموعة من القوى الدولية ذات الوزن السياسي والاقتصادي الكبير.
هذا التوجّه لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة قراءة واقعية لتجارب سابقة أدركت فيها مصر أن الخروقات الإسرائيلية غالبًا ما تمرّ دون تبعات عملية. ومن هنا، سعت القاهرة إلى بناء شبكة من الضمانات الخارجية التي تُشكّل غطاءً دبلوماسيًا يحدّ من احتمالات المماطلة أو التلاعب في تفسير البنود. فإشراك هذه القوى الكبرى لم يُقصد به فقط دعم الاتفاق، بل خلق نوع من المسؤولية المشتركة التي تُلزم هذه الأطراف بمتابعة التنفيذ والتدخّل عند الحاجة.
ويمكن القول إن مصر بهذه الخطوة أضافت بعدًا مؤسسيًا جديدًا إلى مسار التسويات الشرق أوسطية؛ إذ لم تعد تسعى إلى اتفاقات تنتهي بتوقيع سياسي، بل إلى ترتيبات دولية قابلة للاستمرار والتكيّف مع المتغيّرات. كما يعكس هذا التوجّه فهمًا مصريًا عميقًا للبيئة الدولية الراهنة، التي تميل إلى إدارة الأزمات عبر التحالفات والتنسيق الجماعي لا عبر الوساطات المنفردة.
بهذا المعنى، لم يكن تدويل الضمانات مجرد أداة فنية لضبط الإيقاع السياسي، بل تعبيرًا عن دبلوماسية حذرة ومتدرجة توازن بين الثقة والرقابة، وبين الحفاظ على الدور القيادي المصري وتوزيع عبء الالتزام على شركاء دوليين قادرين على التأثير في إسرائيل عند الضرورة.
خيارات القاهرة في مواجهة المماطلة الإسرائيلية
رغم الأجواء الإيجابية التي رافقت إعلان اتفاقية شرم الشيخ لوقف إطلاق النار، تدرك القاهرة، بحكم تجربتها الطويلة مع الملف الفلسطيني، أن التحدي الحقيقي يبدأ بعد لحظة التوقيع، لا عندها. فالتاريخ القريب حافل بمحطات تجاهلت فيها إسرائيل التزاماتها أو أعادت تفسيرها بما يخدم مصالحها الأمنية والسياسية.
ومن ثمّ، تتعامل مصر مع الاتفاق الحالي بعينٍ واقعية، واضعة في الحسبان ضرورة امتلاك بدائل وخيارات متعددة تضمن استمرار التهدئة دون التفريط في مكانتها كوسيط رئيسي.
يمكن في هذا السياق استشراف ثلاثة مسارات متوازية للسياسة المصرية:
1-المسار الدبلوماسي التصعيدي:
تتمسّك القاهرة أولًا بالأدوات الدبلوماسية، عبر الضغط المنظّم من خلال القنوات الرسمية والدولية، مع تفعيل الدور الرقابي للقوى الراعية؛ لضمان عدم إفلات تل أبيب من الالتزامات المبرمة. وإذا استمرّت الخروقات، قد تلجأ مصر إلى رفع الملفات أمام مجلس الأمن أو التلويح بإعادة النظر في التنسيق الأمني. هذا المسار يحافظ على صورة مصر كوسيطٍ مسؤول ومتزن، لكنه يضع اختبارًا جديًا أمام الإرادة الغربية في فرض التزاماتها كضامنة حقيقية للاتفاق.
2-المسار العربي والإقليمي:
على المستوى العربي، تراهن القاهرة على مقاربة جماعية جديدة تتجاوز ردود الفعل الآنية. فهي تدرك أن توازن القوى الإقليمي لم يعد يحتمل إدارة الصراع بآليات قديمة، لذا تسعى إلى تنسيق مواقفها مع عمّان والدوحة ضمن جهدٍ سياسي وإنساني موحّد. والغاية هنا ليست فقط حماية اتفاق وقف النار، بل إعادة إحياء فكرة الأمن الجماعي العربي كرافعةٍ لردع أي خروقات مستقبلية. إن تحويل الهدنة إلى مدخلٍ لمسار سياسي شامل يمنح مصر مساحة أوسع للمناورة، ويعيد الاعتبار لدورها كقائدة للتوازن الإقليمي.
3-المسار الأمني غير المعلن:
وفي حال تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء، تمتلك القاهرة أدوات ضغط غير مباشرة يمكن تفعيلها بهدوء. فإدارة المعابر، وتعديل قواعد التنسيق الأمني تمثّل أوراقًا استراتيجية تُستخدم بذكاء دون إعلان رسمي. هذه المقاربة تعكس خبرة مصر في الجمع بين الحزم والمرونة؛ إذ تستطيع إيصال رسائلها بوضوح دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة أو المساس بدورها الوسيط.
بهذه المسارات الثلاثة، تسعى القاهرة إلى الحفاظ على توازنٍ دقيق بين دورها كوسيط موثوق ومسؤوليتها تجاه الأمن الإقليمي. فهي تدرك أن أي إخلال إسرائيلي بالاتفاق لن يُقاس فقط بمدى الضرر على غزة، بل بمدى قدرته على اختبار مصداقية مصر كفاعلٍ مركزي في هندسة السلام الشرق أوسطي. ومن ثمّ، فإن إدارة مرحلة ما بعد الاتفاق تبدو بالنسبة لمصر امتحانًا سياسيًا لا يقل أهمية عن نجاحها في تحقيق التهدئة ذاتها.
استشراف المسار القادم
يبقى مستقبل اتفاقية شرم الشيخ رهين ثلاثة محددات أساسية:
أولها، مدى جدية القوى الضامنة في متابعة التنفيذ وعدم الاكتفاء ببيانات دبلوماسية فضفاضة.
ثانيها، قدرة القاهرة على حشد دعمٍ عربي ودولي يجعل أي خرقٍ إسرائيلي مكلفًا سياسيًا.
وثالثها، التطورات الميدانية داخل غزة، التي قد تفرض إعادة تموضع أو تعديل في الدور المصري إذا تبدّلت موازين القوى بين الفصائل.
وفي حال تكرار المماطلة الإسرائيلية، من المرجّح أن تلجأ القاهرة إلى ما يمكن تسميته بـ”الدبلوماسية الصلبة”، أي المزج بين الضغط السياسي والإجراءات الرمزية — كتقليص التنسيق الأمني أو تعليق الاتصالات — دون كسر خطوط التواصل بالكامل. فهي تعلم أن الحفاظ على قنوات الاتصال، حتى في لحظات التوتر، جزء من أدوات النفوذ لا نقيضها.
في النهاية، لا يمكن النظر إلى اتفاقية شرم الشيخ بوصفها مجرد هدنة مؤقتة أو إنجازًا دبلوماسيًا تقليديًا؛ فهي تمثّل محاولة مصرية مدروسة لإعادة تعريف دورها في معادلة القوة الإقليمية. فمن خلال إدراكها لطبيعة السلوك الإسرائيلي المراوغ في الالتزامات الدولية، سعت القاهرة إلى بناء شبكة ضمانات أوسع تضم القوى الغربية الكبرى، إدراكًا منها أن شرعية أي اتفاق لا تُصان بالوعود، بل بتعدّد الأطراف الراعية له.
بهذا المعنى، لم تكن مصر تسعى إلى تحقيق تهدئة فحسب، بل إلى ترسيخ نموذج جديد لإدارة الصراعات: نموذج يقوم على الواقعية في تقدير المواقف، والاستباقية في صياغة الترتيبات، والطموح في إعادة تثبيت مكانتها كفاعلٍ إقليمي مركزي. ومهما تكن مآلات الاتفاق، فقد أظهرت التجربة أن القاهرة لم تعد تتعامل مع غزة بوصفها مجرد ملف أمني أو إنساني فحسب، بل كورقة استراتيجية لإعادة صياغة دورها في توازنات شرق أوسط مضطرب، واستعادة موقعها كضامنٍ للاستقرار وصانعٍ للسلام الممكن في زمن التحولات الكبرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد حساني يونس علي – باحث سياسي وأكاديمي متخصص في العلاقات العامة والتسويق الإلكتروني.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
