بقلم الدكتور ياسر أبوبكر*
الملخص
تتناول هذه الدراسة التحليلية مقال الكاتبة المغربية كوثر فارس الموسوم بـ: “من الحراك إلى العقل المجهد: كيف يحوّل التضليل الرقمي غضب الشعب المغربي إلى معاناة نفسية وحقوقية؟“، باعتباره نصًّا فكريًا وإنسانيًا يتقاطع فيه البعد الحقوقي مع الوعي الاجتماعي والنفسي في زمنٍ عربيٍّ متخمٍ بالتشويش المعلوماتي وصناعة الإدراك الجمعي.
تهدف القراءة إلى إبراز القيمة المعرفية والأخلاقية للمقال ضمن الخطاب العربي المعاصر، وإلى ربط الحالة المغربية بالحالة الفلسطينية التي تشكّل نموذجًا حادًا لتجليات التضليل في سياق الاستعمار الإعلامي والسياسي، حيث تتحوّل المعلومة إلى سلاحٍ لإعادة صياغة الوعي وسرد التاريخ.
فالتحليل لا يقف عند حدود الوطن المغربي، بل يتجاوزها إلى أفقٍ إنساني عربي–فلسطيني يؤمن أن استعادة الحقيقة هي أولى خطوات التحرر.
مقدمة
تُعدّ ظاهرة التضليل الرقمي من أخطر التحديات التي تواجه الوعي العربي المعاصر، إذ باتت المعلومة تُستخدم لتشكيل الإدراك لا لتنويره، ولتوجيه الرأي العام بدل تنويره.
من هذا المنطلق، يقدّم مقال كوثر فارس معالجة فكرية راقية لجدلية “الحق في المعلومة” مقابل “صناعة الوعي الزائف”، من خلال دراسة الحراك المغربي الأخير بوصفه مرآةً للوجدان الشعبي، ومؤشرًا على أزمة الثقة بين المواطن ومؤسساته.
وتكمن أهمية النص في كونه لا يكتفي بتوصيف المشهد الاحتجاجي، بل يذهب إلى تحليل البنية الأخلاقية والنفسية للوعي العربي في زمن الفوضى الرقمية، حيث يتداخل السياسي بالسيكولوجي، والمعلومة بالانفعال، والحق بالظن.
أولًا: البنية الفكرية للمقال
يتأسس نص كوثر فارس على رؤيةٍ نقديةٍ تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن عبر مدخلٍ قيميٍّ قوامه “الضمير الإنساني”.
فالمغرب في تصورها ليس مجرد فضاءٍ جغرافي، بل صورةٌ مصغّرة للعالم العربي في بحثه المستمر عن التوازن بين السلطة والكرامة.
تبدأ الكاتبة بمشهدٍ لغويٍّ بليغ، حيث يتماهى المكان بالإنسان:
“بين حُلّة البحر الفيروزية وعباءة المحيط اللازوردية، يقف المغرب كجسرٍ بين الذاكرة والآتي.”
هذا الافتتاح الأدبي لا يُقصد به التزيين، بل التأسيس الرمزي لفكرة الانتماء التي ستتحول لاحقًا إلى محورٍ فلسفيٍّ في النص.
فالمقال يقدّم أطروحة جوهرها أن الكرامة لا تُصان إلا حين تُصان الحقيقة، وأنّ الدولة التي تُبنى على وعيٍ مزيفٍ تفقد مشروعيتها الأخلاقية قبل السياسية.
من هنا، لا يُقرأ النص كمجرد تعليقٍ على احتجاجٍ اجتماعي، بل كمحاولةٍ فلسفية لإعادة التفكير في العلاقة بين المعرفة والسلطة والضمير داخل العالم العربي بأسره.
ثانيًا: التضليل الرقمي كتهديد للحق في المعلومة
تتناول الكاتبة ظاهرة التضليل الرقمي من زاويتين مركزيتين:
1-الزاوية الحقوقية:
تستحضر الكاتبة الفصلين (25) و(28) من الدستور المغربي، إلى جانب المادة (19) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، لتؤكد أن الحق في المعلومة هو أحد أعمدة المشاركة الديمقراطية، وأنّ تشويه هذا الحق عبر التضليل يفرّغ السياسة من معناها الأخلاقي.
2-الزاوية النفسية–المعرفية:
ترى الكاتبة أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الكذب نفسه، بل في اعتياد العقول عليه، حتى يصبح الزيف مألوفًا والحقيقة مشكوكًا فيها.
وهنا تطرح مفهوم “العقل المجهد”، الذي يعبّر عن حالة الإنهاك الذهني الناتجة عن الحمل المعلوماتي الزائد في بيئةٍ رقميةٍ متضاربة.
تستند في تحليلها إلى دراسة مغربية منشورة في Journal of English Language Teaching and Linguistics (مرّاح وتيزاوي، 2018) تؤكد أن الشباب يواجهون صعوبةً في التمييز بين الحقيقي والمزيّف، ما يخلّف آثارًا نفسية تشمل القلق والتشوش المعرفي.
بهذا الطرح، يتحول المقال إلى مساهمةٍ نوعيةٍ في علم اجتماع المعرفة الرقمية، حيث يربط بين المعلومة كسلطة والحالة الذهنية للإنسان العربي الذي يعيش في بيئةٍ مشبعةٍ بالتضليل، سواء في الرباط أو في رام الله أو في بيروت.
ثالثًا: من التجربة المغربية إلى الوعي العربي–الفلسطيني
على الرغم من أن النص ينطلق من سياقٍ مغربي، إلا أن بنيته الفكرية تسمح بقراءته كجزءٍ من المشهد العربي العام.
فالاحتجاجات التي تصفها الكاتبة بوصفها صرخةً ضد التهميش، تشبه في جوهرها الصوت الفلسطيني الذي يواجه تشويه روايته في الإعلام العالمي.
إنّ العلاقة التي تلمّح إليها بين “الحق في المعلومة” و“الحق في الذاكرة” تكاد تكون تعريفًا دقيقًا لما يعيشه الفلسطيني يوميًا، حيث تُعاد كتابة التاريخ بلغةٍ استعماريةٍ رقمية، ويُحوَّل الاحتلال إلى “صراع”، والمقاومة إلى “تحريض”.
في هذا السياق، يصبح نص كوثر فارس صرخةً عربية مشتركة ضد الاستلاب المعرفي، ودعوةً إلى إعادة امتلاك السردية.
فحين تُشوَّه الحقيقة في الإعلام، تُصاب الهوية بالعطب؛ وحين يُفقد الإنسان حقه في المعرفة، يُنتزع منه حقه في الكرامة.
وهكذا، تتلاقى التجربتان المغربية والفلسطينية في سؤالٍ واحد:
كيف يمكن لمجتمعٍ يعيش في زمن الخوارزميات أن يحافظ على ضميره الجمعي من التزييف؟
رابعًا: الأخلاق والسياسة – الضمير بوصفه عقدًا اجتماعيًا
يتميّز المقال بقدرته على الربط بين التحليل السياسي والبعد الأخلاقي.
فالكاتبة لا تقع في فخّ الاتهام، بل تُعيد تعريف المسؤولية السياسية على ضوء الضمير.
وفي عبارةٍ بالغة الدلالة، تكتب:
“من يؤدي القسم دون أن يجعل المصلحة العامة فوق مصلحته، فقد استقال من ضميره قبل منصبه.”
هذه العبارة تمثل جوهر رؤية كوثر فارس: أن الإصلاح يبدأ من الضمير، وأنّ المسؤولية السياسية لا تنفصل عن المسؤولية الأخلاقية.
إنّها فلسفة في الحكم والقيادة تُعيد إلى السياسة معناها الإنساني، بعيدًا عن منطق التسلط أو التبرير .
بهذا الموقف، تقدّم كوثر فارس رؤية فلسفية للحكم تقوم على تحويل المنصب من سلطة إلى رسالة، ومن نفوذٍ إلى تكليفٍ لخدمة الإنسان.
إنها دعوةٌ لاستعادة السياسة من أيدي التبرير إلى أفق المسؤولية، حيث يصبح الإصغاء إلى الناس واجبًا وطنيًا لا خيارًا إداريًا.
وهي فكرة تنطبق بعمقٍ على الحالة الفلسطينية أيضًا، حيث تقتضي إدارة الصراع واستنهاض الوعي الجمعي تأسيس ثقافة إصغاءٍ متبادلٍ بين المجتمع والقيادة، وبين الحقيقة والقرار.
خامسًا: التقييم الأكاديمي والنقدي
يمكن تصنيف مقال كوثر فارس ضمن الكتابة الفكرية النقدية المعاصرة التي تمزج بين الأدب والبحث، وتُعيد للغة العربية قدرتها على التفكير لا التزيين.
قوة النص تكمن في وضوح بنيته المفاهيمية، وانضباط منطقه الجدلي، وقدرته على الانتقال السلس من المحلي إلى الإنساني.
وهو من النصوص القليلة التي تربط بين التضليل الرقمي كمشكلة تقنية والأخلاق السياسية كإطارٍ قيميٍّ شامل.
ورغم أن النص طويل نسبياً، فإن تراكم فكرته يخدم هدفه البحثي ويُغني محتواه ،إذ يتحول من تقريرٍ إلى وثيقةٍ فكريةٍ-حقوقية تصلح لتأطير نقاشٍ عربي أوسع حول الحق في المعلومة، والحصانة المعرفية، والكرامة الإنسانية. ويمكن اختصاره مستقبلاً إلى دراسة معرفية–إعلامية قابلة للنشر الأكاديمي.
خاتمة
يُعدّ مقال كوثر فارس نصًّا تأسيسيًا في فهم العلاقة بين المعرفة والضمير في العالم العربي.
فهو ينتصر للإنسان قبل الخطاب، وللوعي قبل الانفعال، ويذكّر بأنّ الحرية لا تُصان بالضجيج بل بالمسؤولية، وأنّ الوطن لا يُبنى بالصمت بل بالصدق.
من المغرب إلى فلسطين، ومن كل أرضٍ تُشوَّه فيها الحقيقة باسم “الاستقرار” أو “الخوف”، يتردد النداء ذاته:
“أصلحوا الضمير قبل الخطاب، فالوطن لا يُبنى على الصمت بل على الوعي.”
بهذا المعنى، لا يُقرأ المقال كتحليلٍ لاحتجاجٍ اجتماعي فحسب، بل كوثيقةٍ فكريةٍ تؤسس لوعيٍ عربي-فلسطيني جديد يرى في المعرفة مقاومة، وفي الضمير ضمانةً للكرامة، وفي الحقيقة شكلًا من أشكال الحرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور ياسر أبوبكر – باحث متخصص بالشؤون السياسية والتربوية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً
