بقلم الدكتور يونس الديدي*
المقدمة: ولادة الرواية
في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، شهدت الخريطة الجيوسياسية العالمية تحولاً جذرياً. لم يكن الحدث مجرّد مأساة إنسانية، بل تحوّل إلى فرصة استراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها لإعادة صياغة العالم الإسلامي كـ “تهديد وجودي”. يتتبع هذا المقال جذور الإسلاموفوبيا المنظّمة—التي تُوصف غالباً بــ “الإرهاب الإسلامي” أو “التطرُّف”—ليكشف كيف حُوكِتت ضمن أجندة أنجلو-أمريكية هدفت إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط، والهيمنة على موارده، وترسيخ إسرائيل كقوة مهيمنة. وبعد عقدين، بدأ هذا البناء الوهمي ينهار، مُظهِراً أن الرواية لم تُنسج من الخيط الأبيض للحقيقة، بل من خيوط الاستغلال.
ما بعد 11 سبتمبر: من الصدمة إلى المخطط التوسعي
لم تكن الاستجابة الأمريكية للهجمات مجرد سعي للعدالة. تكشف الوثائق الأرشيفية وتحليلات مراكز الأبحاث—مثل تقارير مؤسسة راند ومشروع “القرن الأمريكي الجديد” (1997) — أنّ الطموح لإعادة تشكيل الشرق الأوسط كان قائماً قبل الهجمات، التي وفَّرت الغطاء الأخلاقي لتنفيذه.
-السيطرة على الموارد وتغيير الأنظمة: قُدِّمت غزوات أفغانستان (2001) والعراق (2003) كعمليات “مكافحة إرهاب”، لكن نتائجهما—السَّيطرة على آبار النفط، والقواعد العسكرية، وعقود إعادة الإعمار—كشفت دوافع اقتصادية. بحلول 2010، أنفقت واشنطن أكثر من 2 تريليون دولار على الحروب، بينما جنت شركات مثل هاليبرتون وشيفرون مليارات.
-الدور الإسرائيلي: بالتوازي، عززت إسرائيل خطاب “صراع الحضارات” عبر جماعات الضغط في واشنطن، لترسم نفسها كحليف غربي لا غنى عنه ضد “همجية الإسلام” حسب زعمهم واستخدمت الاستراتيجية الأمنية الأمريكية لعام 2002 لربط “الأنظمة الاستبدادية” في الشرق الأوسط بالإرهاب، مبررةً تدخلات عززت هيمنة إسرائيل.
صناعة “الإرهابي المسلم”: حرب نفسية مُمنهجة على الإسلام
لشرعنة الحروب اللامتناهية، حوَّل المحور الأمريكي-الصهيوني اللغة والصورة إلى سلاح. تعاونت مراكز الأبحاث، وهوليوود، والإعلام لتثبيت صورة نمطية في اللاوعي العالمي: “الإرهابي” هو رجل ملتحٍ يحمل القرآن.
-تواطؤ الإعلام: روَّجت قنوات مثل فوكس نيوز ووسائل أوروبية محافظة لخطاب التخويف. كشفت دراسات لمركز “التقدم الأمريكي” (2011) تمويل جماعات مؤيّدة لإسرائيل لمدونين و”خبراء” يربطون الإسلام بالعنف.
-اللعبة المزدوجة لفرنسا: رغم شعارات العلمانية، استخدمت فرنسا الخطاب المعادي للإسلام لتبرير سياساتها الاستعمارية في إفريقيا وقمع الحريات الداخلية. فقوانين حظر الحجاب (2004) و”مكافحة الانفصالية” (2021) حوّلت الإسلاموفوبيا إلى أداة قمع.
تشققات الرواية: من الربيع العربي إلى غطرسة نتنياهو
مع مطلع العقد الماضي، بدأ الافتراء ينهار تحت وطأة الوقائع!
-حروب فاشلة وشكوك متصاعدة: غياب أسلحة الدمار الشامل في العراق، وصعود داعش من رماد الاحتلال الأمريكي، ومطالب الربيع العربي بالكرامة—وليس الجهاد—فضحت نفاق “الحرب على الإرهاب”. وأظهرت استطلاعات مركز بيو (2018) تراجع الثقة العالمية في السياسة الخارجية الأمريكية.
-الإعلام البديل: كسرت منصات مثل تويتر وقناة الجزيرة احتكار الإعلام الغربي. ففيديوهات القصف الإسرائيلي على غزة أو الضربات الأمريكية في اليمن أجبرت الرأي العام على السؤال: مَن الإرهابي الحقيقي؟
لم يعد مصطلح “إرهابي” يُذكِّر العالم سوى بقصف نتنياهو للمدنيين، أو الضربات الفرنسية في مالي، أو حرب السعودية في اليمن—بأسلحة غربية.
الأنظمة العربية: شركاء في صناعة الخوف
تبنّت أنظمة عربية كثيرة خطاب الإسلاموفوبيا، لخلط الأوراق بين المعارضة السياسية و”التطرُّف”. فتصنيف جماعات مثل الإخوان أو حماس “إرهابية” وفَّر ذريعة للقمع، بينما ضمن دعم الغرب العسكري والشرعية. وحتى الحصار الخليجي لقطر (2017) —المُعلن تحت شعار “مكافحة الإرهاب”—كشف كيف تحوّل المصطلح إلى أداة تسوية حسابات إقليمية.
الختام: فجر وعي جديد
اليوم، يواجه مهندسو الإسلاموفوبيا واقعاً لم يتوقعوه: جيلٌ يرى خلف الأكاذيب. فاغتيال الصحفية (شيرين أبو عاقلة)، وحكومة نتنياهو المتطرفة، وقوانين فرنسا المعادية للمسلمين، تُقابل بانتقام عالمي، وليس صمتاً.
“لتحطيم هذه الرواية تماماً، يجب مواجهة المنظومة الاقتصادية-السياسية التي تنتفع من التقسيم. وهذا يتطلب محاسبة الإعلام، ودعم حركات التغيير الشعبي، وإنهاء نموذج ‘الحروب من أجل الموارد’. فقد كشفت تقارير مؤسسة «أوكسفام» (2023) أن 73% من أرباح الشركات العسكرية الأمريكية خلال العقد الماضي ارتبطت مباشرةً بالصراعات في الشرق الأوسط، بينما زادت مبيعات الأسلحة الأوروبية إلى دول المنطقة بنسبة 58% منذ 2015، مما يؤكد أن استمرار الإسلاموفوبيا ليس سوى غطاء لتعظيم أرباح النخب الصناعية-العسكرية
عصر الإسلاموفوبيا كاستراتيجية جيوسياسية ينتهي. وما يليهُ يعتمد على جرأتنا لكتابة قصة جديدة… قائمة على العدل، لا الخوف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور يونس الديدي – كاتب صحفي، محاضر وأستاذ جامعي، باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً