بقلم الأستاذة ميس الكريدي*
قدّم أردوغان نمطيّةً تُعيد العالم إلى ماقبل سايكس-بيكو وبلغت تلك الرؤية مبلغاً واضحاً في تظهيرها، في حينه كان السؤال المُلحّ علينا هو أن ذلك يعني ماقبل وعد بلفور، بمعنى قبل إعلان الانتداب البريطاني حضانته لمشروع دولة يهودية في الشرق الأوسط، وعند ذلك المفترق السياسي بدأ افتراق المتحالفَين على إسقاط سورية، أردوغان-نتنياهو.
وبالتصريحات الكاوبوية للرئيس ترامب تقدّم كلا الصديقين للإدارة الأمريكية بعرض للقدرات، فالرئيس أردوغان بدأ بتجميع المرتزقة وحشد مايقارب -حسب الإعلام- مئتي ألف من المرتزقة والجهاديين، مع التركيز على حجم الإيغور وعددهم والمفاخرة بأعمالهم وبطشهم ومجازرهم في الساحل السوري في إشارة إلى التعاون المأمول لدى الإدارة الأمريكية إبان عمليات ابتزاز الصين، وإطلاق العنان للعداء تجاه روسيا و الضلوع في الضغط عليها عبر الحكم التابع له في دمشق بما يسمى سلطة مؤقتة وتسليط الضوء على عمليات تغيير ديموغرافي من شأنها تفعيل نشوة حلف الناتو في التحشيد ضد قواعد روسيا في الساحل السوري كجزء من اشتباك عالمي ليس آخره ما حصل في ناغورني كراباخ والتهديد في القرم.
من جهة أخرى تصاعد غضب نتنياهو الذي أدرك أن أردوغان سحبه إلى حماقة غير محسوبة مستغلاً حقده على المقاومة وما حصل في أحداث أكتوبر، فتم إسقاط سورية ببديل يحمل عنواناً جهادياً يستخدمه أردوغان في تعزيز حضوره في النظام العالمي كمركز استخباراتي متقدم، وبلغت نشوة إدارة أردوغان حدّ إعلان ذلك بوصفه نجاحاً للتعاون مع مشروع الديمقراطيين في الولايات المتحدة الأمريكية حتى صرّح بأنه صنع من (الجولاني) وجماعته مصيدة للإرهابيين، وتفاعلت تلك الإدارة لتقدم ذلك على CNN وتبدأ بالترويج للوالي العثماني الجديد.
على مائدة السياسة ذاتها أعاد نتنياهو حساباته السياسية وهو الذي بات شكّاكاً تجاه إدارة الديمقراطيين رغم دعم بايدن اللامحدود، ومتخوفاً من براغماتية ترامب، فبدأ بإعادة ترميم العلاقات مع دول بريكس التي ضربها في سورية بحماقة خاسرة و وجد نفسه أمام الجنوب السوري الذي هو عملياً سورية غير المفيدة، حتى في المضمار العسكري طالما شكل الحروب اليوم يعتمد على الخلايا والتنظيمات بينما يستعد أردوغان للقبض على سورية المفيدة الحقيقية، وعند ذلك المفترق بدأ الاتفاق المسموم ضد سورية ينشرخ بعمق، وحتى شمّاعة العداء لإيران لم تعد كافية لرتق الشرخ.
ورغم مسارعة الإدارة الأمريكية إلى إجراء سريع بتحريك نوازع اسرائيل عبر فتح النار على اليمن، إلا أن نتنياهو تدارك التقدم السياسي الذي جعل المملكة العربية السعودية تمتلك زمام التحريك في إدارة ترامب بما يتفوق على الأنغام العقائدية حول القومية اليهودية وإسرائيل الكبرى، والتي يبدو أن رجل الأعمال ترامب ومستشاره إيلون ماسك لا يؤمنان بها.
وبقيت القاعدة الذهبية هو أنّ من ينجز تحولاً كبيراً عليه أن يختفي من المشهد، كما تشرشل بعد الحرب العالمية الثانية وكما عرفات بعد أوسلو والسادات بعد كامب ديفيد ورفيق الحريري بعد 1559، فبدأ العمل يتركز حول من يبقى نتنياهو أم أردوغان؟!
أردوغان الذي غدر بتفاهم آستانة وبروسيا وبالصين، بينما العلاقات بين نتنياهو والدول السابقة لم تحمل التزاماتٍ سياسيةً سابقاً.
كل ماسبق يجعل من الواقع المتحرك الآن في المنطقة نظرية أولية لإعادة رسم خرائط المصالح، وما يحدث في تركيا على نحو مفاجئ يجعل علاقتها مع الإدارة الأمريكية على محكِّ اختبار تاريخي يترقبه نتنياهو أولاً حتى يختبر مدى تغيير المنظور الاستراتيجي في المصالح الأمريكية، خاصة وأن التوتر الداخلي حدث في إيران سابقاً وفي إسرائيل أيضاً وفي تركيا ذاتها سابقاً عام 2016، وقتها قيل إن روسيا وإيران قامتا بمساعدته.
ولكن الآن قطعاً لن يتلقى أردوغان تلك المساعدة وهكذا يكون الاختبار واضحاً أمام نتنياهو والسعودية إن نجا أردوغان فهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تبدّل جلدها العتيق كله، فمشروع أوباما يستمر باستخدام الإرهاب، ووقف النار على جبهة أوكرانيا التي تمثّل صراع الغرب العميق مع روسيا مايزال متعثراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذة ميس الكريدي – كاتبة و باحثة سياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً