بقلم الدكتور يونس الديدي*
جريمة لا تغتفر
في خريف 1941، حوصرت مدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ اليوم) بقبضةٍ حديدية من قِبل القوات النازية. لم تكن المدافع وحدها تقتل السكان، بل صمتُ العالم عن حصارٍ جوّعَ مليوني شخصٍ حتى الموت. هذه الواقعة ليست مجرّد فصلٍ مأساوي في تاريخ الحروب، بل نموذجٌ صارخٌ لـ “حروب التجويع”، حيث يُحوَّل الغذاء إلى سلاحٍ لإخضاع الشعوب، وتدمير إرادة الحياة نفسها.
لكن التاريخ لا يخلو من بصيص أمل: فبينما انحدرت الإنسانية إلى استخدام الجوع كأداة حرب، قدّمت الحضارة الإسلامية، قبل قرون، نموذجاً أخلاقياً فريداً يحرّم تجويع المدنيين، ويحمي الضعفاء حتى في ذروة الصراع. فكيف تطورت حروب التجويع؟ ولماذا يظل الإسلام مرجعيةً أخلاقيةً في زمن الهمجية؟
جذور تاريخية: من الحصارات القديمة إلى الحروب الحديثة
تعود فكرة تجويع الخصوم إلى أقدم الحضارات. ففي الإمبراطورية الرومانية، كان قطع إمدادات الطعام عن المدن المحاصرة تكتيكاً معتاداً، كما حدث في حصار قرطاج (149–146 ق.م)، حيث أباد الرومان المدينة وأحرقوا حقولها. لكن الأمر تحوّل إلى “استراتيجية منهجية” في العصور الحديثة:
-الحرب العالمية الأولى: فرضت بريطانيا حصاراً بحرياً على ألمانيا، تسبب في مجاعةٍ أودت بحياة 750 ألف مدني.
-الهولودومور: في ثلاثينيات القرن العشرين، استخدم ستالين التجويع لإخضاع أوكرانيا، فمات 3–5 ملايين شخص.
-اليمن اليوم: وفقًا للأمم المتحدة، تسبب الحصار منذ 2015 في مقتل 85 ألف طفلٍ جراء سوء التغذية.
يقول المؤرخ العسكري جون كيغان: “التجويع سلاحٌ لا يحتاج إلى رصاص… إنه يقتل ببطء، ويدمر الكرامة الإنسانية قبل الجسد”.
أخلاقيات الحرب: الخط الأحمر الذي تجاوزه العالم
في القانون الدولي، يُحظَر تجويع المدنيين بموجب بروتوكول جنيف (1977). لكن الواقع يكشف أنّ الدول الكبرى نفسها تتجاهل هذه القواعد حين تتعارض مع مصالحها. ففي العراق خلال التسعينيات، أدّت العقوبات الاقتصادية إلى وفاة نصف مليون طفل، وفق تقديرات اليونيسف، دون أن يُحرك المجتمع الدولي ساكناً.
هنا يبرز سؤالٌ محوري: لماذا تفشل الأخلاقيات الغربية في ضبط سلوك الحكومات أثناء الحروب؟
الإجابة قد تكمن في اختزال مفهوم “أخلاقيات الحرب” في قوانين شكلية، دون غرسها كقيمٍ إنسانيةٍ جوهرية.
الإسلام: عندما سبقت التعاليمُ الأخلاقيةُ القانون الدولي بألف عام
قبل أن يعرف العالم مصطلح “القانون الإنساني”، وضع الإسلام قواعدَ صارمةً للحفاظ على حياة المدنيين، حتى في خضمّ المعارك. ففي خطبة الوداع، حرّم النبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم) الاعتداء على النساء والأطفال، وأمر بحماية المزارع والحيوانات.
الأكثر إثارةً هو ما حدث في فتح مكة (8 هـ/630 م)، حين دخلها المسلمون منتصرين دون إراقة دماء، وأمّنوا الناس على أموالهم وأرزاقهم. بل إنّ الخليفةَ أبا بكر الصدّيق (رضي الله عنه) أعطى توجيهاته الشهيرة لجنوده: “لا تقتلوا طفلًا أو شيخًا، ولا تحرقوا نخلاً، ولا تقطعوا شجرةً مثمرة”.
هذه التوجيهات، التي سبقت مواثيق جنيف بقرون، تعكس فلسفةً عميقةً: الحرب ليست مبرراً لتدمير الحياة، بل يجب أن تُدار بأخلاقٍ تحفظ للإنسان إنسانيته.
لماذا ينجح النموذج الإسلامي؟
تقول الكاتبة البريطانية “كارين أرمسترونج” في كتابها الإسلام تاريخ موجز: “القوانين الإسلامية للحرب كانت ثورية في عصرها، لأنها حمّلت الجنود مسؤولية أخلاقية تجاه الأبرياء”. وهذا ما يفسّر سبب إصدار منظمات مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وثائقَ تشيد بالتراث الإسلامي في حماية المدنيين.
الفرق الجوهري بين المنظور الإسلامي والغربي هو أنّ الأول يجعل الأخلاق جزءاً من العقيدة الدينية، بينما يحصر الثاني الأخلاق في إطار القانون الوضعي، الذي يمكن اختراقه بذرائعَ سياسية.
حروب التجويع اليوم: جرائمٌ بلا عقاب
لا تزال حروب التجويع تُمارس في القرن الحادي والعشرين، بدعمٍ من صمت المجتمع الدولي:
-سوريا: حصار الغوطة الشرقية (2013–2018) تسبب في موت مئات الأطفال جوعاً.
-غزة: الحصار الإسرائيلي منذ 2007 حوّل القطاع إلى “سجن مفتوح” يعاني 65% من سكانه من انعدام الأمن الغذائي. و ما يقع اليوم من حرب تجويع ضد سكان غزة و منع المساعدات الإنسانية عنهم
“أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، وصف هذه الممارسات بأنها “وصمة عار على جبين الإنسانية”، لكن المنظمة الدولية تعجز عن تطبيق قراراتها بسبب الفيتو السياسي.
الخاتمة: هل من أمل؟
التاريخ يعلمنا أن حروب التجويع لن تتوقف إلا بتحوّل جذري في الضمير العالمي. هنا يأتي دور النموذج الإسلامي، ليس كإطارٍ ومنهج دينيٍ فحسب، بل كإطارٍ أخلاقيٍ شامل. ففي الوقت الذي تُستخدم فيه القوانين الدولية كأداة انتقائية، تُذكّرنا تعاليم الإسلام بأن الحرب لا تُشرعَن إلا للدفاع، وأن انتهاك حرمة الجائع خطيئةٌ لا تُغتفر.
ربما لو عاد العالم إلى هذه المبادئ، لاختفى صوتُ المدافع، ولصار السلامُ خياراً لا مهربَ منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور يونس الديدي – كاتب صحفي، محاضر وأستاذ جامعي، باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً