بقلم الأستاذ سنان نبهان درويش*
يشهد الشرق الأوسط اليوم تحوّلًا استراتيجيًا كبيرًا في السياسة الأمريكية، مدفوعًا بإخفاقات الماضي وصعود نماذج بديلة في إدارة النفوذ العالمي. أبرز هذه النماذج هو النموذج الصيني، الذي لا يعتمد على التدخلات العسكرية بقدر ما يستثمر في الاقتصاد والبنى التحتية، وهو ما تجلّى بوضوح في أفغانستان.
فبينما دمرت الولايات المتحدة أفغانستان عبر طائراتها وغاراتها الجوية وخرجت صفر اليدين، تمكنت الصين من دخول البلاد عبر الاستثمارات، وحصلت على امتيازات اقتصادية منها الليثيوم، دون أن تطلق رصاصة واحدة. هذه المقارنة المؤلمة دفعت واشنطن إلى إعادة التفكير في أسلوب إدارتها للنفوذ، خصوصًا في الشرق الأوسط.
في هذا السياق، نلاحظ تغيّرًا واضحًا في مقاربة أمريكا للمنطقة: من دعم الحروب والأنظمة الأمنية، إلى الميل نحو التهدئة والاستقرار. فالسياسة الأمريكية لم تعد تسعى إلى تفجير الجبهات، بل إلى إغلاقها أو إدارتها بهدوء، ولو على حساب حلفائها التقليديين مثل إسرائيل.
إعادة إنتاج حزب الله من داخل الحرب
الحرب على حزب الله لم تُنهِ الحزب، بل أعادت تشكيله. لقد مكنت الحزب من إعادة ترتيب بيته الداخلي، واستعادة زخمه التنظيمي، وتطوير بنيته العقائدية والميدانية. النتيجة: حزب أكثر تماسكًا، وأقرب إلى تحقيق هدفه الاستراتيجي المعلن، أي هزيمة إسرائيل.
إسرائيل، رغم سلسلة الحروب والانهيارات المحيطة بها — من تدمير غزة، إلى سقوط النظام في سوريا، إلى العدوان على لبنان واستشهاد القيادات العليا — لم تحقق مكاسب استراتيجية. بل إن هذه “الإنجازات” أفرزت نتائج عكسية.
سوريا ورفض التطبيع
رغم الحرب الطويلة، لا تزال سوريا عصيّة على التطبيع مع إسرائيل، والواقع الإقليمي بعد الحرب أصبح أكثر تعقيدًا. النفوذ التركي هو الذي تعزز، لا الإسرائيلي ولا حتى الأمريكي، وإسرائيل تشعر الآن بقلق أكبر من التمدد التركي في شمال سوريا، مقارنة بالنفوذ الإيراني التقليدي.
إيران: من اتفاق نووي إلى تسوية تاريخية
المفاوضات الجارية مع إيران لم تعد محصورة في الملف النووي. بل إنّ الاتفاق المرتقب هو تمهيد لمصالحة استراتيجية بين واشنطن وطهران. ووفق الرؤية الأمريكية، فإن إيران فقدت الكثير من أوراقها الإقليمية — في لبنان، سوريا، وحتى العراق — مما غيّر موازين القوى التفاوضية لصالح الغرب.
لكن هذا لا يعني أن إيران انتهت، بل إنّ التحوّل الجاري قد يؤدي إلى إعادة تموضع إيراني مدروس، في ظل تفاهمات دولية جديدة.
أمريكا تتواصل مع “أعداء الأمس”
التغير الجوهري في السياسة الأمريكية يتجلّى أيضًا في فتح قنوات مع حركات كانت مصنفة إرهابية، مثل “حماس”. يشير هذا إلى نيّة واشنطن في إعادة ترتيب المشهد الفلسطيني، خاصة مع السماح بعقد مؤتمر في نيويورك للاعتراف بدولة فلسطينية — وهو تطور رمزي لكنه ثقيل المعنى.
في لبنان، تُظهر واشنطن ميلًا إلى تسوية جديدة، تشمل سلطة تميل إلى الانفتاح وتسليم سلاح الحزب. غير أن هذه الرغبة تصطدم بعقيدة الجنوب اللبناني: لا سلاح بلا تحرير. وبالتالي، لا يمكن فرض تسوية دون إنجاز فعلي على الأرض.
غزة والصدمة الأوروبية
العدوان على غزة لم ينكسر فقط على صمود المقاومة، بل كسر صورة إسرائيل في العواصم الغربية. لم يعد “الهولوكوست” قادرًا على تبرير المجازر، بل تحوّل في الوعي الغربي إلى غطاء لاحتلال عنيف. التظاهرات تعمّ العواصم الأوروبية، والبرلمانات بدأت تطرح أسئلة محرجة. هناك تغير حقيقي في الرأي العام الغربي تجاه إسرائيل.
لبنان والمخيمات الفلسطينية: خطوة نحو الترتيب
زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى لبنان، وسعيه لسحب السلاح من المخيمات، بدءًا من بيروت، هي جزء من هذا المسار الجديد. هناك محاولة حقيقية لإغلاق ملفات الفوضى، وإعادة تنظيم المشهد الفلسطيني، بما يتماشى مع معادلة “الاعتراف مقابل الاستقرار”.
نحن أمام تحول استراتيجي في الشرق الأوسط. من الحروب المفتوحة، إلى تسويات مؤلمة. من الارتكاز على القوة الصلبة، إلى اعتماد القوة الناعمة. أمريكا باتت تتبع الصين — لا عسكريًّا، بل اقتصاديًّا واستراتيجيًّا — وهي تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذها في المنطقة، ولكن بشروط جديدة، وتحالفات جديدة، وصيغة أقل عدوانية.
وإذا ما استمرت هذه الديناميكيات، فإن الشرق الأوسط قد يخرج من دوامة الحرب.. ولكن إلى أي نوع من “السلام”؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذ سنان درويش – كاتب ومخرج وسيناريست، باحث سياسي.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً