بقلم الأستاذة نسيبة شيتور*
في العلاقات الدولية، يُعدّ مبدأ السيادة الوطنية أحد الأعمدة غير القابلة للتجزئة أو المساومة. وإذا كانت الدبلوماسية تسمح أحيانا بتدوير الزوايا في سياق البحث عن حلول وسط، فإنها تتوقف تمامًا عندما يتعلق الأمر بمحاولة المساس بجوهر الدولة.
التسريبات الأخيرة التي نشرتها صحيفة ليكسبريس الفرنسية – والتي تُعدّ امتدادًا غير بريء لمنطق رسمي مأزوم – تقترح أنّ فرنسا تدرس تجميد أصول “جزائريين” على أراضيها، بسبب ما وصفته برفض الجزائر استقبال رعاياها الذين صدر بحقهم قرار ترحيل.
ورغم أن الجزائر لم تعلّق رسميًّا على مضمون “التسريب”، إلا أنّ الردّ الذي جاء عبر وكالة الأنباء الجزائرية، حمل ما يكفي من الدلالات لاعتبار المسألة محسومة: الجزائر لا تتفاعل مع الابتزاز، ولا تقبل أن تدار العلاقات الثنائية عبر منابر صحفية تستخدم كأدوات ضغط سياسية.
ما وراء التسريب: مناورات بلا كلفة
ليست هذه المرة الأولى التي تستعمل فيها الصحافة الفرنسية لإيصال رسائل مموّهة نيابة عن الدولة، وهو سلوك يعبّر عن حالة من التردّي المؤسساتي داخل ماكينة القرار الفرنسي. فحين تستبدل القنوات الدبلوماسية الشرعية بمقالات رأي أو “معلومات مُسرّبة”، تصبح العلاقة الثنائية رهينة خطابات رمزية، وليست إدارة مصالح.
فرنسا، من خلال هذا “التسريب”، لا تبحث فعليًّا عن معالجة قضية هجرة أو تنفيذ إجراءات قانونية. ما تريده – على الأرجح – هو اختبار ردّ الفعل الجزائري، وربما جس نبض استعداد الجزائر لتقديم تنازلات في ملفات أخرى مقابل التهدئة الإعلامية. وهي مناورة تقرأها الجزائر جيدا، لكنها لا ترى فيها قيمة تلزمها بالتفاعل.
أزمة باريس وليست أزمة الجزائر
المفارقة أن فرنسا تلوّح بمصادرة “أصول مشبوهة”، بينما هي التي رفضت التعاون القضائي مع الجزائر في أكثر من 50 إنابة قانونية تتعلق بملاحقة متّهمين بنهب المال العام. والأسوأ من ذلك، أن باريس منحت بعض هؤلاء المشتبه فيهم إقامةً، حماية، بل وحتى منصّات سياسية.
الحديث إذاً عن “مكافحة الفساد” يبدو، في السياق الفرنسي، انتقائيا وموجّهًا. فما يسمى بـ “الممتلكات المشبوهة” لا يصبح مشكلة إلا عندما يراد استغلالها كورقة ضغط سياسي، لا حين تكون محلّ طلبات تعاون قضائي مشروعة.
وهنا تتضح الأزمة الحقيقية: فرنسا تعيش مأزقًا داخليًّا يتّسع، وتحاول تصديره خارجيًّا باتجاه الجزائر، ظنًّا منها أن استدعاء “الشبح الجزائري” لا يزال يجدي نفعًا لدى ناخبيها.
الجزائر الجديدة: مفهوم للسيادة بلا رمادية
في السنوات الأخيرة، أظهرت الجزائر أنها تعيد تعريف مفهوم السيادة في علاقاتها الدولية. فالموقف من فرنسا ليس حالة استثنائية، بل جزء من توجه استراتيجي أشمل يقوم على خمس قواعد:
-السيادة ليست قابلة للتفاوض، مهما كان مستوى الشراكة.
-الذاكرة جزء من الهوية، ولا تمحى بصفقات آنيّة.
-العلاقات المتوازنة تقوم على النّدّيّة، لا على الوصاية أو التعالي الرمزي.
-ملف الفساد يعالج قانونيًّا لا إعلاميًّا.
-الجزائر تدير ملفاتها من الجزائر، لا من أي عاصمة أخرى.
وبهذا المنطق، لم تعد الجزائر تقاس بردود أفعالها، بل بقدرتها على فرض أجندتها السيادية دون صخب، ودون أن تقع في فخّ الاصطفاف الانفعالي.
من يستعمل “الشبهات” أداة سياسية.. يضعف عدالة قضيته
إن التلويح الفرنسي بمصادرة ممتلكات لا يقوم على أساس قانوني ثابت، بل على خطاب رمزي هش. ففرنسا التي تجاهلت ملفات التعاون القضائي، لا يمكنها أن تقنع أحدًا بأنها الآن بصدد “تصحيح الوضع القانوني”. ولو كانت نوايا باريس فعلاً مرتبطة بمبدأ العدالة، لبدأت أولاً من ذاتها، ومن آلياتها الانتقائية في الاستجابة.
وعليه، فإنّ ما حدث لا يعدو أن يكون استعراضاً دبلوماسيًّا إعلاميًّا – أقرب إلى سياسة “الرّدع الكلامي” – يسعى لإحراج الجزائر، لا لتحقيق إنفاذ قانون حقيقي.
الرد الجزائري: بين الصمت السيادي والإشارة الواثقة
اكتفت الجزائر بالإشارة عبر وكالتها الرسمية إلى أن ما يجري هو “تسيير للعلاقات عبر التسريبات”، وهي صيغة محمّلة بالمعاني.
فالصمت هنا ليس تراجعًا، بل قرار سيادي بعدم الانجرار إلى معارك وهمية، تصاغ في غرف إعلامية لا في قنوات دبلوماسية.
ومع ذلك، لم يكن الصمت جزئيًّا؛ بل اختتم برسالة مباشرة، غير قابلة للتأويل:
“فلينفذ من يدّعي التهديد ما يلوح به… إن كان يملك الجرأة على ذلك.”
وهنا، تمارس الجزائر ما يعرف في أدبيات العلاقات الدولية بـ”الردع الرمزي المقلوب”، أي استخدام الاستفزاز نفسه كدليل ضعف لدى الخصم، لا كتهديد فعلي.
علاقات ندّيّة.. أو لا علاقات
إن الجزائر، اليوم، لا تبني سياساتها الخارجية على انفعالات ظرفية، بل على تراكم استراتيجي لمسار استقلالي بدأ منذ سنوات.
وهي لا تعادي فرنسا كدولة، بل ترفض سلوكاً سياسيًّا متعالياً لا يعترف بالتحولات الجيوسياسية التي فرضت واقعًا جديدًا في الجنوب، حيث أصبحت الجزائر نقطة ارتكاز إقليمية، لا تابعًا دبلوماسيًّا.
إن السيادة الوطنية ليست ورقة تفاوض، بل هي شرط وجودي. ومن لا يفهم ذلك، لا يمكنه أن يطمح لشراكة حقيقية مع الجزائر.
إن الجزائر التي دفعت دماء مليون ونصف المليون شهيد لتنتزع سيادتها، لا تقبل أن تدار كملف على طاولة مفاوضات عابرة، ولا أن يلوح لها بعقوبات بائسة كتلك التي كانت تفرض على الشعوب المستعمرة.
هي دولة الذاكرة الحيّة، والكرامة المتأصلة، والقرار الحر الذي لا يستدرج ولا يساوم. ومن لم يدرك بعد أن الجزائر تغيرت، فليعلم أنّ زمن الإملاءات قد ولّى، وأن من أراد علاقة ندّيّة، فليدخلها من باب الاحترام، لا من نافذة التهديد.
لأننا في الجزائر لا نفرّط، لا في السيادة… ولا في الكبرياء!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأستاذة نسيبة شيتور – باحثة في الاتصال السياسي.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز JSM وإنما تعبّر عن رأي كاتبها حصراً