بقلم الدكتور محمدعياش*
خمسة وسبعون عاماً على احتلال فلسطين، قرنٌ إلا ربعاً من العذابات والآلام، كادت الصهيونية أن تُثبت في ذهنيّة العالمَين الإسلامي والعربي باستحالة مواجهة الآلة العسكرية الضخمة، ولاسيما بعد استحواذها على أكثر من مئتي رأس نووي، وتشدُّقها الدائم بقوة جيشها الذي لا يقهر، وتبجّحها المستمر بامتلاكها كُنْهَ العلوم التكنولوجية والعسكرية.. وإقناعها العالم الغربي بأنها «واحة الديمقراطية» في منطقة (أوتوقراطية) تمور بالجهل والفساد والإرهاب.
إنّ الهجوم المباغت الذي نفّذه رجال المقاومة في السابع من أكتوبر / تشرين الأول الماضي، غطّى فعلياً على جميع الأزمات التي احتلت واستحوذت على اهتمام الإعلام المحلي والدولي.. فالحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا تراجعت وتلاشت إعلامياً. الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والانقلابات في بعض الدول الإفريقية ورفضها المطلق للتواجد الفرنسي على أراضيها، وغيرها من الأزمات التي اختفت تماماً من التناول والتداول الإعلامي.
وجهة نظر الشباب الفلسطيني المعاصر:
ثمّة أمر بالغ الأهمية ألا وهو ما لا يريد الغرب والعدو فهمه ولا استيعابه، أنّ هذه الأجيال العربية والمسلمة لا تقبل أبداً بما قبِل به آباؤنا وأجدادنا، هذه الأجيال تريد بكل بساطة أن تعيشَ تماماً كما تعيشُ الأجيال في أمريكا وأوروبا وكندا واليابان ودول الخليج، بكامل حقوقها المدنيّة والمالية وبثرواتها التي منحها الله تعالى لهم، ولا تحتمل نهبها أو احتلال أراضيها وتشريدها أو قتل أطفالها، وسجن شبابها، تريد بكل بساطة عيشاً كريماً محترماً كغيرها، وفي الوقت ذاته هذه الأجيال العربية المسلمة الناشئة، تريد العيش في ظل حضارتها العربية الإسلامية، وتكره التقليد الذي أغرى الأجيال السابقة، أي تريد العيش بكل رفاهيات الحياة وفي نفس الوقت بكل التزام واعتزاز بقيمها وعاداتها وتقاليدها، ولا يغرَّنك ظهور الشباب العربي والمسلم أحياناً بمظاهرَ غربية أو بتقليدات أجنبية،فإنما هي مجرد تطفّل وحب تجربة شيء جديد أو موضة هنا وهناك، ولكنهم في قرارة أنفسهم مشبعون بكل فخر واعتزاز بدينهم وقيمهم، ولا يحبون الانجرار إلى تولّي غيرهم أو الخضوع لأي شكل من أشكال الهيمنة الأجنبية، ولذلك تراهم فجأة ينتفضون مع أول فرصة ممكنة بحركة مليونية جماهيرية نصرةً لقضاياهم كما نرى اليوم مع غزة المظلومة والصابرة التي قطّعت قلوب كل الناس في العالم مؤازرة ودعماً، وكما رأينا في بقاع شتى من عالمنا الإسلامي والعربي، والأهم هو أننا نحن أيضا كعرب ومسلمين من حكومات ومنظمات ومؤسسات وأحزاب علماء دين ومفكرين وصحافيين وقنوات فضائية وكتّاب يجب علينا أيضاً أن ننتبه لهذه الملاحظة وألّا نقفز فوق ما تريده هذه الأجيال، أو نهمشهم أو نقلل من شأنهم أو نستخف بإرادتهم وقدراتهم العلمية والمهنية، علينا أن ننطق بما تريده وإلا تفاجأنا بأشكال رفض قاطع وانقلاب مفاجئ على كل المعادلات بشكل يستغربه الجميع، لا, لا نستغرب، يجب علينا فهم حركة الأجيال بشكل سليم وإلا كنا نحن الخاسرين والخائبين، وهم المنتصرون. وهذا هو ما حدث في 7 أكتوبر، واستهجنه الجميع.
وجهة نظر مخالفة لهجوم السابع من أكتوبر:
منذ اللحظة الأولى لطوفان الأقصى، انبرى الكثير من الكتّاب العرب واصفين هذه الخطوة بـ (الفوضوية) أو العبثية؛ التي ستجلب الدمار الكامل للقطاع، وأنها غير محسوبة، تسجل لحساب دول إقليمية تريد تصفية حساباتها مع الراعي الأمريكي للكيان الصهيوني، وهم كتّاب كبار في عالم المقالة والتحليل السياسي، وأغلبهم كانوا رؤساء تحرير لأكبر الصحف العربية والدولية، وزادوا على ذلك بأن العنف لا يجلب للفلسطينيين إلا المزيد من العنف المضاد، وأن السلام والجلوس على طاولة المفاوضات أقرب الطرق لنيل الحقوق المستلبة.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، اعتبر حركة حماس لا تمثّل الشعب الفلسطيني، وهذا خطأ كبير وقع فيه. كان من الأجدر لأبي مازن أن يقول إن «إسرائيل» تتحمل نتيجة الحصار الظالم على قطاع غزة، وبالتالي يكون قد أمسك العصا من المنتصف، وهذا الطوفان يبرره قانون الطبيعة الفيزيائي (لكل فعل رد فعل). ماذا يريد العالم من سكان غزة؟ أن يشكروا الاحتلال ويصلّوا لدوامه ويوزّعوا الحلوى على جنود الاحتلال المدججين بأعتى صنوف الأسلحة!
وجهة النظر المؤيدة للهجوم:
لا أبالغ إذا قلت: إنّ معظم شعوب العالم تؤيّد القضية الفلسطينية العادلة، وباركت الهجوم وتمنّت استمراره والقضاء على الكيان الصهيوني المتغطرس.. تجلّى هذا الدعم بعد لقاء مندوب فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالتصفيق الكامل، بينما لم يصفق أحد على كلمة المندوب الصهيوني، وظهر على وجهه الغضب.
ضرورة وحتمية الهجوم كفلته كل الشرائع والقوانين الدولية، ولم يكن في حسبان الشباب المقاوم تحرير الأرض كاملة بقدر ما أرادوا أن يقدموا للعدو وللعالم «أنموذجاً» حديثاً يتساوق مع التطورات الحاصلة لديه، وبالتالي، ليس من الضرورة أن تنتهي الدول العظمى من هجوم صغير أو حالة اشتباك لساعات فقط، ينبغي النظر إلى استمرارية وديمومة المواجهات لأن في تراكمها ,أي الهجمات, يمكن تحقيق إنجازات على المدى الزمني، لأن متغيرات العالم لا تتوقف عند حدّ معين، والتجاذبات الدولية تطرأ عليها الكثير من المعطيات والتطورات، والخلافات والاختلافات الحاصلة داخل العدو تؤخذ بالحسبان ويمكن الاستثمار فيها.
إن انهيار الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينات من القرن الماضي ليس بسبب عدو خارجي أو جماعات ترزح تحت الاحتلال السوفيتي أدت مع المدَيين الزمني والمكاني لأن تتقلص دولة روسيا بحدودها الحالية، فـ «إسرائيل» لا يمكن تشبيهها بالاتحاد السوفيتي الذي يتربع على أكبر مساحة في الكرة الأرضية، لأن التصدعات الداخلية والاقتصادية على وجه الخصوص ساهمت بهذا الانهيار، فـ «إسرائيل» لا تعتبر دولة لأنها أنشئت بقرار من مجلس الأمن، وبالتالي فإن جذورها في المنطقة ضعيفة جداً والمساحة لفلسطين لصالح أهلها وعدد سكان فلسطين تجاوز عدد المستوطنين الصهاينة بـ 500 ألف، وربما من أهداف الهجمة البربرية قتل الكثير من الفلسطينيين وتقليص عددهم بما يتوافق أو أقل.
أغلب سكان القطاع هم مؤمنون بالمقاومة، وهذه حقيقة لا يجب القفز فوقها، فرجال ونساء وشباب قالوا بالحرف الواحد: لدينا تحت الركام عائلات بأكملها، وكلهم فداء لفلسطين والمقاومة، وعائلات مُسحت من السجل المدني، والجميع على كلمة واحدة الاحتساب عند الله، ويقينهم بالله كبير صابرون منتظرون ؛ ( أبرهة الحبشي حين جاء إلى مكة الجمّاء الغفير قضهم بقضيضهم ومعه الفيلة لهدم الكعبة ، بالرغم من توسط كبار مكة بأن يعدل عن قراره, والنتيجة جاء الرد من الله العزيز الجبار بإرسال الطير الأبابيل التي ترميهم بحجارة من سجيل)،
وغزة اعتزت بالله، والله لا يخذلهم وهو القائل: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”. لم يقل وأعدوا لهم مثل ما أعدوا لكم، لأن السرَّ مع الصدق والإخلاص واليقين بالله، وهذا ما استند عليه الشباب المقاوم في السابع من أكتوبر.
نتمنى لغزةَ النصر والظفر على الأعداء، ولا نتمنى لهم كما حصل مع المسلمين في طليطلة الإسبانية وحصارهم المشهور474 هـ -1082م، حيث قال لهم الإسبان:” لماذا بقيتم صابرين على هذا الحصار إلى هذا الوقت؟” فقالوا:” كنا ننتظر المدد من ملوك الطوائف الإسلامية لمساندتنا ومؤازرتنا”، فقال لهم الإسبان: “إنّ ملوك الطوائف ساعدونا على حصاركم!”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور محمد عياش – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً