بقلم الدكتور مصطفى يوسف اللداوي*
فجأةً يعلو الصوت الأمريكي بدعوة الطرفين للقَبول بهدنة إنسانية لعدّة أيام، يتمّ بموجبها الإفراج عن خمسة عشر أسيراً إسرائيلياً، مقابل إدخال المؤن والمساعدات الإنسانية وقوافل الإغاثة العربية والدولية إلى قطاع غزة.
تنشط الإدارة الأمريكية في المنطقة للترويج للهدنة المقترحة، وتشجّع الدول ذات الصلة على القبول بها والدعوة إليها، والتأثير على حركة حماس للموافقة عليها والالتزام بها، في ظل تسريبات متعمّدة من العدو الإسرائيلي أنه سيلتزم بها إذا التزمت بها حركة حماس، إلا أنه يمهّد لعدم الالتزام بها، والعودة إلى القصف والتدمير، بحجّة شكّه بأن حركة حماس لن تلتزم بها، ولن تفي بوعودها بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين المتّفق عليهم.
إنها ليست صحوة ضمير بعد أربعة وثلاثين يوماً من العدوان الإسرائيلي بالسلاح والقرار الأمريكي على قطاع غزة، الذي أحدث فيه دماراً مهولاً وخراباً واسعاً، وأفضى إلى استشهاد ما يربو على الثلاثة عشر ألف شهيدٍ فلسطيني، بالنظر إلى أن المفقودين وعددهم يقترب من الثلاثة آلاف يعدّون شهداء، فضلاً عن أكثر من ثلاثين ألف مصابٍ.
رغم ذلك لم تتحرك الإدارة الأمريكية ولا دول أوروبا لفرض هدنةٍ إنسانيةٍ وإجبار العدو الإسرائيلي على احترامها، بل قامت بعكس ذلك تماماً، إذ أيّدت الإدارة الأمريكية ورئيس الحكومة البريطانية استخدام إسرائيل القوة المميتة ضد الفلسطينيين، وزوّدتا الكيان بأسلحة جديدة وقنابل ذكية وصواريخ فتّاكة، لاستخدامها في المعركة ضد قطاع غزة، للتعجيل في حسم الحرب وتحقيق الأهداف المتّفق عليها فيما بينهم.
للولايات المتحدة الأمريكية مآربُ أخرى من الهدنة المقترحة، آخرها وربما ليس منها أبداً، الحاجات الإنسانية لسكان قطاع غزة، وتجنيبهم ويلات الحرب المدمرة، وتزويدهم بمتطلبات الحياة البسيطة، إذ لا يعنيها السكان ولا تهتم لشأن الفلسطينيين، ولكن يبدو أن الصور المنقولة من أرض القطاع، ومشاهد الدمار وحالات القتل المروعة، حرّكت الشارع في مختلف الولايات الأمريكية، وبدأ الحراك الشعبي الآخذ في التمدد والاتساع يضغط على صنّاع القرار الأمريكي، وينذرهم من العواقب الوخيمة لسياسات البيت الأبيض الداعمة للكيان.
يبدو أن استطلاعات الرأي في الشارع الأمريكي تثير قلق وخوف الإدارة الأمريكية والحزب الديمقراطي، من تزايد الأصوات العربية والإسلامية وغيرها التي باتت تنتقد السياسة الأمريكية وتتهمها بمساعدة الكيان وحمايته، وتهدّد بعدم التصويت للحزب الديمقراطي، خاصةً أنهم يقفون على بعد سنة واحدة فقط من الانتخابات الرئاسية.
كما تتخوّف الإدارة الأمريكية من اتساع دائرة الحرب، ودخول المنطقة كلها في دوامة عنفٍ لا تستطيع السيطرة عليها، في ظل تزايد استهداف قواتها وقواعدها ومصالحها في المنطقة، وهو ما قد يؤثر على دورها ويعطّل مصالحها، ويدفع الصين وروسيا لاستغلال تورطها في الحرب لتحقيق أهدافهما الاستراتيجية، سواء بحسم المعركة روسيّاً في أوكرانيا، أو بتغيير الأوضاع صينيّاً في تايوان.
كما تشعر الإدارة الأمريكية من خلال مستشاريها العسكريين المشاركين في العدوان على قطاع غزة، أن إسرائيل غير قادرة على تحقيق أهدافها التي أعلنتها، وأنها عاجزة عن تحقيق نصرٍ حاسمٍ ضد حركة حماس، وأنّ أقدامها تسوخ في رمال غزة يوماً بعد آخر، وفي الوقت نفسه لا تستطيع بيان برنامجها السياسي، وخطتها في القطاع بعد انتهاء العمليات الحربية، مما يجعل المستقبل مبهماً والمغامرة خطيرة.
أمام هذه المخاوف السالفة الذّكر وغيرها، التي تدركها المقاومة الفلسطينية وتعلمها، وتعرف خبثها وسوء طويّتها، وهي منها حذرة ويقظة، ترى الإدارة الأمريكية أنها قادرة على خداع الشعب الفلسطيني ومقاومته، والدول العربية وأنظمتها، من خلال فرض هدنة تحمل الصفة الإنسانية، تذرُّ من خلالها الرماد في العيون، وتسكت المعارضة وتوقف المظاهرات، وتهدّئ الرأي العام الدولي.
في الوقت الذي تقوم فيه بإعادة تموضع الجيش الإسرائيلي في المناطق التي يتواجد فيها شمال القطاع، وتعيد تنظيم صفوفه، وتزويده بالذخائر المطلوبة والخطط المناسبة لمواصلة القتال بعد انتهاء أيام الهدنة المعدودة، حيث تُمنّي الإدارة الأمريكية نفسها والعدو الإسرائيلي بتحديد أهداف جديدة، ورصد مواقع وشخصيات المقاومة، في ظل حالة الاسترخاء النسبي التي تفرضها الهدنة، وتدفع الإنسان عموماً إلى حرية الحركة والعمل، وهو ما من شأنه أن يساعد في تجديد بنك الأهداف الإسرائيلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور مصطفى يوسف اللداوي – كاتب وباحث سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً