بقلم الدكتور آصف ملحم*
تصاعد الحديث في الأيام الأخيرة عن موافقة الولايات المتحدة تسليم أوكرانيا طائرات إف-16. وخلال زيارة الرئيس الأوكراني إلى الدنمارك، أعلنت رئيسة الوزراء الدنماركية، مته فريدريكسن، تزويد أوكرانيا بـ 19 مقاتلة من هذا النوع من أسطولها المكون من 30 طائرة، و هذه الطائرات ستصل أوكرانيا على دفعات؛ 6 قبل نهاية العام الحالي و 8 في عام 2024 و 5 في عام 2025. أما رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، فأعلن أثناء زيارة فلاديمير زيلينسكي إلى أمستردام عن استعداده لتقديم 24 مقاتلة إف-16 من أسطوله المكون من 42 طائرة، أما الباقي فسيتم بيعه بهدف تحديث أسطول البلاد.
علاوة على ذلك، فلقد أعلنت 11 دولة غربية عن استعدادها لتدريب الطيارين الأوكرانيين، وهي: الدنمارك، هولندا، بلجيكا، كندا، لوكسمبرغ، النرويج، بولندا، البرتغال، رومانيا، السويد، بريطانيا. أما الولايات المتحدة فلن تقوم بالتدريب، على الرغم من أنها البلد المنتج لهذه الطائرات.
قوبلت هذه الخطوة الأمريكية بالكثير من التحفظ و الشك على لسان العديد من المراقبين. الرئيس بوتين قال: سنحرقها كما حرقنا دبابات ليوبارد. بالمقابل بعض المسؤولين الروس اعتبرها أنها تشكل تهديداً لروسيا!
من نافلة القول، أي سلاح يُقدم لطرف ما في حرب ما سيشكل خطراً على الطرف الآخر، لذلك فالحديث عادة يجري عن حجم الخطر ومستواه، وهذا ما سيقودنا إلى السؤال التالي:
ما هي التغييرات التي ستحدثها هذه الطائرات في سير المعارك في أوكرانيا؟
سنحاول في هذه المقالة استجلاء الصورة و الوقوف على حقيقة الأمر!
في الواقع، الطائرة إف-16 هي طائرة مقاتلة تكتيكية متعددة المهام، قادرة على قصف الأهداف الجوية و الأرضية بذخائر متنوعة. هي أشهر أنواع الطائرات ولكنها ليست الأفضل. تُستخدم الطائرة إف-16 لقصف الخطوط الخلفية للعدو، كمخازن الذخيرة و البنى التحتية و المعدات و الأسلحة و القوات، الأمر الذي يقود إلى إرباك القوات الموجودة في الخطوط الأمامية و تعقيد عمليات الإمداد.
تبغي أوكرانيا من هذه الخطوة تحقيق تفوق جوي على روسيا؛ فالكثير من الخبراء الأوكرانيين يؤكدون أن أحد أهم أسباب تعثر الهجوم المضاد هو التفوق الجوي الروسي. لتحقيق هذا الغرض، يؤكد بعض الخبراء العسكريين أن أوكرانيا تحتاج إلى 200-300 طائرة، في حين يؤكد آخرون أنها تحتاج فقط إلى 100 طائرة، أي أن عدد الطائرات يجب أن يكون كبيراً.
لكي تتمكن هذه الطائرات من العمل في أوكرانيا فهي بحاجة، علاوة على التدريب، إلى بنية تحتية متطورة؛ كمصانع تنقية الكيروسين و الهنكارات و المخازن و المعدات اللازمة للصيانة و الخدمة و الطواقم الفنية و ما شابه. هذا كله غير متوفر في أوكرانيا، كما أن عملية إنشائها تتطلب الكثير من المال و الوقت. كما أن روسيا قادرة على تدميرها في طور الإنشاء.
علاوة على ذلك، المدى الأقصى لهذه الطائرة هو 4220 كيلومتراً، وهو ليس كبيراً، لذلك من الأفضل أن تكون البنى التحتية المرتبطة بخدمة هذه الطائرات داخل أوكرانيا. و في حال استخدام بنى تحتية في دول مجاورة لأوكرانيا، كبولندا و رومانيا، فهذا سيكون تحولاً خطيراً في سير الحرب و تدخلاً مباشراً من حلف الناتو، ومن الصعب التكهن بنتائجه و مآلاته اللاحقة.
فضلاً عن ذلك، وفق الخبرات المكتسبة من قصف مدينة بلغراد الصربية من قبل حلف الناتو في عام 1999، لا يمكن لهذه الطائرة أن تعمل بشكل مستقل عن باقي القوات في حقل المعركة؛ بل لا بد أن تكون عمليات القصف كثيفة و بتنسيق مباشرة مع القوات البرية. فوفق المفاهيم المتبعة في حلف الناتو، لا بد من تضمين أو إدماج هذه الطائرات ضمن ما نسميه (مفهوم العمليات المتعددة في فضاء معلوماتي واحد). تحقيق هذه الشروط ضمن أوكرانيا غير ممكن في الظروف الحالية.
لا تتطلب مواجهة هذه الطائرات عملاً خاصاً من قبل روسيا؛ فكشفها بواسطة الرادارات سهل جداً، كما يمكن التعامل معها بطرق الحرب الإلكترونية، الأمر الذي سيساعد على التقليل من خطرها. كما أنها لا تتمكن من الدخول في اشتباك مع المقاتلات الروسية الحديثة، مثل سو-35 و ميغ-31، لأن الأخيرة قادرة على اصطيادها و تدميرها بسهولة.
بناءً على ذلك، من المرجح أن تعمل هذه الطائرات في أماكن بعيدة عن الجبهة، بعيداً عن مجال عمل الرادارات و الدفاعات الجوية الروسية، وسيقتصر عملها على قصف القوات البرية الروسية فحسب. لذلك نلاحظ أن الجنرال جيمس هيكر James Hecker، قائد القوات الجوية الأمريكية في أوروبا و أفريقيا، قال ما معناه: هذه الطائرات ليست خارقة في الميدان، و سيتم استخدامها على الأرجح لإطلاق الصواريخ بعيدة المدى كـ storm shadow، الموجودة في أوكرانيا بالأساس.
وفي نفس السياق، في الـ 13 من يوليو الماضي، قال الجنرال دوغلاس سيمس Douglas Sims، مدير العمليات في هيئة أركان القوات الجوية الأمريكية: عند روسيا مضادات جوية متطورة و قوات جوية متطورة و كمية الطائرات المقدمة لن تغير من الوضع الميداني.
تأسيساً على هذه الاعتبارات جميعها، فإننا نعتقد أن هذه الخطورة الأمريكية جاءت لأسباب سياسية بحتة، نذكر بعضها:
1-اقتراب الانتخابات الأمريكية، فالرئيس بايدن بحاجة للظهور بصورة الممسك بقوة على زمام الأمور في أوكرانيا أمام الرأي العام الأمريكي.
2-تحسين صورة زيلينسكي داخل أوكرانيا، خاصة بعد فشل الهجوم المضاد، و تعويضاً له عن فشل جهوده في المحادثات التي جرت في قمة الناتو في العاصمة الليتوانية فيلينيوس الشهر الماضي.
3-الحفاظ على استمرارية الحرب، لأن أي خطوة للخلف من قبل الداعمين الغربيين للقيادة الأوكرانية ستكون ضربة سياسية قاصمة لكل الذين دخلوا في هذه اللعبة، وستكون أيضاً اعترافاً بالنصر لروسيا.
4-التغطية على منظومات و شبكات الفساد المستشرية في أوكرانيا و في الدول الغربية، فبعض صانعي القرار الغربيين و الأوكرانيين متورط في هذه الشبكات، و التراجع قد يجرهم إلى المحاكمات.
= = = = =
*الدكتور المهندس آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً