بقلم الدكتور عبدالله العبادي*
في قرية عرف أهلها بالكذب وشهادة الزور. حيث تزوج رجل بامرأة سراً وكان زواجاً شرعياً أمام شيخ وبحضور شهود.
وبعد فترة اختلف الزوجان وطردها، فذهبت للقاضي مشتكية، وقالت: تزوجني زواجاً شرعياً ويشهد بذلك فلان وفلان.
طلب القاضي حضور الزوج والشاهدين فأنكر الزوج والشهود معرفتهم بهذه المرأة تماماً. نظر القاضي للشاهدين وللزوجة أيضاً وسألها: هل عند زوجك كلاب؟
أجابت: نعم
قال: هل تقبلين بشهادة الكلاب؟
قالت: نعم
قال: خذوها فإن نبحت الكلاب عليها فهي تكذب و إن رحبت بها فهي صاحبة الدار.
ارتبك الشاهدان و إصفرت وجوههم. فقال القاضي: إجلدوهم فإنهم يكذبون.
بئس القرى التي كلابها أصدق من أهلها..
نعم هذا حال مجتمعنا العربي اليوم، ناشرو التفاهة يتسيدون المشهد العام، والعالم يطبل لهم، سهراتهم يتابعها الملايين، لباسهم بالملايين، فنادق فاخرة، وكم هم كثر في وقت تلاشى فيه كل شيء نبيل وقيم، في زمن تهاوى كل شيء ثقافي وفكري، الأستاذ والمثقف يئن تحت وطأة التهميش، ما يجنيه الواحد منهم في سهرة واحدة، يجنيه أساتذة كلية طوال حياتهم المهنية، نعم إنها ضريبة الضمير الحي.
تباً لزمن صار التافه غالياً وعالياً، وأسطورة وقدوة، وأصحاب الضمير الحي، يجتهدون في العمل البناء، يمارسون طقوسهم الفكرية التي لم تورثهم إلا الشقاء والأعصاب وقلة النظر والوحدة.
باسم الثقافة والفكر، نتعذب يومياً، بين مشاهد البؤس وتفاهة الحياة، مشاهد كثيرة لفوارق كبيرة، بين الطموح الإنساني وانحدار المجتمع، فالعلم صار طريقاً للشقاء، والمجتمع لا يعترف بك، ولا ببحوثك ولا بكتاباتك ولا بمؤلفاتك. الغالبية العظمى تغني أغانيها، وتعرف ثمن فستانها، وإسم خطيبها، ويعرفون ثمن سيارته، وأين يتعشى الليلة.
يدافعون عنه حتى لو أخطأ، ويصطفون لمناصرته، ويعلنون حرباً بمواقع التواصل الاجتماعي بالنيابة عنه، لأنه “الإيدول”. هكذا أصبح مجتمعنا المسكين، غارقاً في أوهام لا بداية ولا نهاية لها. تاه شبابه بين الكرة والمشاهير، فلم يعد التعليم يصنع الأمجاد، بل طريق للفقر والشقاء، هكذا صوروه لهم وهكذا أريد له.
مجتمعات نجحت في منح التافهين المقاعد الأولى، ليصبحوا قدوة، حتى أصبحت الثقافة غير مرغوب فيها، والالتزام الفكري مرادف للتعاسة. لا أحد يقرأ، وإذا قرأ لا يتعدى ست دقائق سنوياً، لكن العربي يسكن مواقع التواصل الاجتماعي وأماكن التفاهة، ومطالبه لا تتعدى سقف ما يراه ويتابعه، يريد الغنى السريع والشهرة، يريد أن يصبح “ستار” حتى لو كان سطلاً فارغاً، ليس مهماً.
هل يعاقبنا التاريخ أم يفر منا المستقبل، كما عاتبنا الحاضر. من سيخلف العروي و الجابري و طه حسين و غسان كنفاني و علي الوردي و الرصافي و كبار الفكر العربي، بما نراه اليوم، من انفلات أخلاقي غير مسبوق في مجتمعات تنحدر نحو الهلاك، من سيقرأ لهايدجر و فيبر و فوكو و هابرماس، القليلون فقط، سيشكلون في المستقبل أقلية مغضوب عليها، فئة شاذة داخل مجتمع تافه.
أي تنمية ثقافية نريدها للأجيال القادمة في ظل تنامي إحتقار العقل واستئساد القطيع…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور عبد الله العبادي – كاتب صحفي، محرر الشؤون العربية و الأفريقية في صحيفة الحدث الأفريقي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً