بقلم الدكتورة رشا محمد صلاح الدين عبدالله قناوي*
تقديم
قد تبدو “القيمة” واضحة في تعريفها لغةً واصطلاحاً و مفاهيمياً؛ إلا أنه بمجرد عرضها على الوجود واختبار طبيعتها؛ يتضح جلياً أن “القيمة” أكثر غموضاً وإلغازًا مما تبدو؛ و يمكننا أيضاً أن نصل إلى حد القول أنه ربما لا تحقق غايتها المنشودة والمرجوة منها داخل العالم.
للوهلة الأولى يظهر الإنسان بأنه هو المتحكم والمسيطر الأوحد على عملية بث “القيمة” وتوزيعها على عالم الشيء، كما يتضح لعقله ويتناسب مع إنسانيته ويحقق له غايته؛ ولكن بعد التأمل والتنقيب قد يتضح أننا أمام مفهوم قرر الانسلاخ عن الإنسان وتغيرت مركزيته التي يكتسب منها القوة؛ ليختار لنفسه مركزية جديدة تكون أقرب إلى طبيعته الشيئية وأكثر انتماءً.
قد يكون هذا الانسلاخ، في نهاية المطاف، هو ما أجبر الإنسان بدوره على التخلي عن طبيعته لينتصر هو الآخر إلى مركزية الشيئية؛ ولكن من زاوية أخرى، و قد تتسبب هذه النزعة التدريجية إلى التشيؤ- مع مرور الوقت- إلى انقراض مفهوم الإنسانية لنرتحل جميعاً إلى عالم الشيء.
الفلسفة وسؤال الكينونة
سؤال الفلسفة، بوصفها كيفية تعبير عن نمط وجود الكينونة، يقودنا بالفعل إلى مهمة الحقيقة التي يغدو الفيلسوف بموجبها في عالمنا اليوم مسؤولاً، ليس فقط إيطيقياً، بل أيضاً فكرياً وتاريخياً تجاه الوجود عامة، والوجود الإنساني خاصة.
بعبارة بسيطة، دور الفيلسوف هو أن يتفلسف، أي أن ينشغل بالفلسفة لا بوصفها تخصصاً معرفياً دقيقاً، يضاف إلى باقي التخصصات المعرفية الدقيقة فحسب، بل بوصفها إمكانية التفلسف التداخلي الذي قد يؤثر بشكل إيجابي في حياة الموجود على الأرض أيضاً.
لذلك، يختلف دور الفيلسوف اختلافاً جذرياً عن دور العالم المتخصص المهتم بالعلوم الطبيعية أو الفيزيائية، أو عن دور العالم المختص في العلوم الإنسانية الأخرى، التي تسعى بدورها إلى أن تكون بمثابة علوم دقيقة تهتم بالوقائع الإنسانية اهتماماً موضوعياً صرفاً. يختلف كذلك عن الفيلسوف المنشغل بالفلسفة باعتبارها تخصصاً في تاريخ الأفكار والمذاهب الفلسفية، والذي لا يعنيه أمر العالم في شيء، بل ما يعنيه هو نقل النصوص والتعليق عليها وتأويلها على أبعد الحدود، أي أنه مهتم بحياة النص أكثر من اهتمامه بالتفلسف كمهمة حياتية تهدف إلى تأسيس أفضل حياة ممكنة، مع شيء من الاحتراز من اقتران هذا الطموح بالإيدلوجيات والمذهبية.
تأسيساً على ما سبق يمكننا طرح السؤال الهام التالي:
كيف يحقق الإنسان وجوده؟
وعندما نلقي هذا السؤال على عقولنا، نجد أنفسنا أمام سؤال آخر، ولكنه يبرز من زاوية أخرى؛ وهو:
كيف يمكن للإنسان أن يفقد وجوده؟
وفيما يلي الاجابة على هذين السؤالين.
التشيؤ/ غير الإنساني
بدايةً، مصطلح التشيؤ هو تحول العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء (علاقة آلية غير شخصية) ومعاملة الناس باعتبارها موضعاً للتبادل.
يعرف الفيلسوف المجري جورج لوكاش التشيؤ بأنه تحول الصفات الإنسانية إلى أشياء جامدة واتخاذها لوجود مستقل، واكتسابها لصفات غامضة غير إنسانية؛ وهذا يعني أيضاً، على حد تعبير لوكاش، اغتراب الإنسان في ظل العلاقات الرأسمالية حيث لم تعد السلع تقاس بقيمتها الواقعية، وإنما تتحدد بقيمة مجردة تحددها السوق.
حينما يتشيأ الإنسان، فإنه سينظر إلى مجتمعه وتاريخه (نتاج جهده وعمله وإبداعه) باعتبارهما قوى غريبة عنه، وتصبح العلاقات الإنسانية أشياء تتجاوز التحكم الإنساني ويصبح الإنسان مفعولاً به لا فاعلاً.
وقد خلص لوكاش إلى أنه على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي في المجتمعات الرأسمالية، إلا أن هذا التقدم لم يمنع من تعرض هذه المجتمعات لأزمات مختلفة ومتعددة؛ بل جعل الإنسان يشعر بالاغتراب، وأضحى ترساً في آلة، وأصبحت قيمته الحقيقية تقاس بمدى ما يحقق من إنتاج، وهنا حدثت أزمة في القيم، لأن قيمة الإنسان الحقيقية أصبحت تقاس بعلاقات الإنتاج و قوانين السلع وتبادلها.
الأنسنة والهوية
يشير مصطلح الأنسنة إلى طرق قديمة ومعروفة في الإنسانيات تنبع من وجود تصور معين للإبداع الإنساني الأدبي و لهويته و للمحيط المادي الذي يعيش فيه ويتفاعل ضمن حدوده.
أما مفهوم الأنسنة الحديث فيشمل من جهة الاهتمام بهوية الإنسان، ومن جهة أخرى يشمل الاهتمام بما ينتجه من فكر، يتميز بالمتانة وببناء يحمل نوعاً من الواقعية المعرفية. كما يحمل مصطلح الأنسنة في صورته الحديثة اعترافاً وتقديراً للتراكم المعرفي الإنساني.
تقول يرجا بولفيلين Merja Polivinen في الرسالة المقدمة لنيل درجة الدكتوراه، الموسومة بـ:
نظرية الفوضى والأدب ومنظور الأنسنة chaos theory, literature and the humanist perspective:
(يركز أغلب ما تناوله نقاد الأدب عن نظرية الفوضى على العلاقة بين عقل الإنسان ومحيطه سواء كان نصوصاً أخرى أو أشخاصاً آخرين من عالم الواقع أو من العالم المتخيل. فمنذ منتصف القرن العشرين تأثر فهم الغرب لهذه العلاقة بفكرة الوجود المادي (المحسوس) كمعلومة، فبعد الحرب العالمية الثانية خلفت المضامين المعرفية للنظرية النسبية ولميكانيكا الكم وغيرهما حالة من عدم اليقين).
وهذه الحالة حلت محل الرؤى الشاملة المتفائلة عن مصداقية المعرفة، وما أن تزحزح الإنسان من مكانته كذروة الخلق حتى أصبحت حالة عدم اليقين تشمل تفسير، ليس فقط الوظائف الأساسية للعالم المادي، بل أيضاً لغة الإنسان ووعيه.
شكل كل هذا رؤية الوجود كطوفان من المعلومات تتحرك حتماً إلى نقطة فنائها. ويرى كثير من الكتاب نظرية الفوضى من هذا المنطلق.
الوجود الحقيقي / الوجود الزائف
الوجود الحقيقي هو الذي يمتلك فيه الفرد ذاته ويتحكم بها، والوجود الزائف الذي يتخلى فيه الإنسان عن أصالته الفردية، خصوصاً حريته، ويلتحق بركب الآخرين، فيستسلم للأعراف والتقاليد، وينفصل عن ذاته التي تدعوه للتفرد والسمو، وهنا يدخل هذا الفرد مرحلة الاغتراب، فيستلب ذاته ويعيش كما تعيش الجماعة التي تنمّط حياته، وتوصي له بالتخلي عن تفرده و العيش بمستوى سلوك الاتجاه العام. وبسبب عزلة الفرد و قبوله بها ينفصل عن وجوده الحقيقي، ولا يستطيع مقاومة تيار الوسط العام الذي يناهض المبدعين و الأفذاذ، ويدخل هذا الفرد الأصيل مرحلة الوجود الزائف التي تعادل التشيؤ. في هذا الوجود يجد الفرد نفسه وقد ألقى مسؤولية وجوده على عاتق الآخرين، ويصبح أمام نفسه والآخرين موضوعاً و شيئاً من الأشياء، التي يجدها حوله فيستقبل الرسائل ولا يرسل، وينصاع تلقائيًا لإرادة الآخرين.
أما عن الوجود الحقيقي؛ ففي لحظات التحولات الكبرى في الصيرورة البشرية تظهر على نحو جلي الكينونات الأصلية والكينونة الزائفة، ولا يحسبن أحد بأن الاندراج في إرادة صناعة الوجود الجديد يفضي بالضرورة إلى ولادة الوجود الأصيل. ففي الوقت الذي ينشغل فيه الوجود الأصيل بفكرة المصير والكرامة الإنسانية ويحول قلقه الوجودي إلى إبداع، ينشغل الوجود الزائف، ذو الوعي المنحط، بالبحث عن حضور عابر، متوسلًا بذلك الكذب والهراء والقول الزائف؛ و أكثر ما يتجلى هذا الأمر في اللحظات الحاسمة من التحول التاريخي، كلحظة اندلاع الثورات مثلًا. إذ يسعى الوجود الأصيل إلى الكشف عن المعنى، مندرجاً بالهم الكلي و عائشاً عذابات البشر، رافعًا القيمة الأخلاقية للكفاح الإنساني، وجاعلًا من هم المصير، كما يجب أن يكون، همها الفردي. وهذا على عكس الوجود الزائف، الذي يغرق في الشتائم و اللامعنى، مظهرًا غيرة زائفة لإخفاء خنوعه الطويل.
ختاماً؛
إن ثنائية الشيء والإنسان، والصراع القائم بينهما على مفهوم القيمة، تأتي بعد محاولة وضع الإنسان قيمة للأشياء، ولا يكتفي فقط بوضع القيمة؛ بل يتعمد ربط الأشياء بأناه، وهذه محاولة لأنسنة الشيء.
مع مرور الوقت، عندما يعتاد الإنسان القيمة، ثم ما يعتري القيمة بعد ذلك من تطورات عبر الزمن؛ ما يترتب عليه تغيير الأفكار داخل العقل الإنساني، في محاولة منه لمزيد من أنسنة الشيء.
ومع مرور المزيد من الوقت تكتسب الأشياء القدرة على ربط الإنسان بها. من ثم، تتسلم الشيئية مهمة تحديد القيمة؛ عندها يتحول الإنسان من أنسنة الشيء إلى إنسان مشيئٍ؛ و بمعنى آخر، يبدأ هو باكتساب قيمته من الشيء، وهنا يبرز صراع الإنسان الحقيقي.
يتشكل صراع الإنسان الحقيقي من خلال نقطتين:
الأولى: وهي الانتصار لإنسانيته والاستمرارية في أنسنة الأشياء؛ وهذا لن يتحقق إلا بإدراك حدوده والشيء؛ وعليه المحافظة على هذه الحدود؛ وإذا نشد الاستمرارية فعليه الاستعانة بـ “الضمير” لأنه الوحيد القادر على ضمان الفكرة.
الثانية: وهي الاستمرار في مواجهة العالم الخارجي والتعامل مع الأشياء والمشيئين؛ ولكن في المقابل عليه تحمل الألم الناتج عن الضغوطات المستمرة، ومجابهة المحاولات المستميتة التي يمارسها الوجود الزائف عليه لإجباره على “التشيؤ”.
= = = = =
الدكتورة رشا محمد صلاح الدين عبدالله قناوي – باحثة و كاتبة و شاعرة.
المراجع
1-الفيلسوف وسؤال الأنسنة والأرضنة.
2-التشيؤ.
3-نظرية الفوضى و الأنسنة.
4-الوجود الزائف … الوجه الآخر لهيدغر.
5-في الوجود الأصيل والوجود الزائف.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي اس ام وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً