بقلم الأستاذ نضال محمد*
تؤكّد العديد من الأحداث في تاريخنا المعاصر، أنّ الشرق العربي لا يمثّل في نظر أوروبا سوى منطقة تجاربٍ واستثمارٍ، سواء في القضايا الجيوسياسية أو الاقتصادية أو حتى الإعلامية و الثقافية. والظاهر أن جميع النّخب، السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية، وقعت في هذا الفخ سواء بحسن نية أو بسوء نية.
إنّ النظام الاجتماعي، القائم على مبادئ: الحرية والعدالة وسيادة القانون ودولة المؤسسات، لا يرفضه أيُّ إنسان واعٍ، عربي أو غير عربي، على وجه هذه الأرض. إلا أنّ أوروبا وأمريكا، راعيتَي حقوق الإنسان، مستعدّتان لاستثمار قوة الشعوب الساعية في هذا الاتجاه، من أجل تحقيق مصالحَ سياسية بغيضة وإجراء استثماراتٍ اقتصادية فيها. إذ يجب أن يكون للحرية والعدالة والقانون بصمة أمريكية أو أوروبية؛ فلا يمكن للعدالة والحرية والقانون أن تكون صينية أو روسية أو عربية. فتجد هذه الشعوب نفسها، بعد فترة قصيرة من الزمن، مستنزَفة القوى ومشوهة الوعي ولا تملك الحد الأدنى من الطاقة الداخلية القادرة على دفعها إلى الأمام.
بعد قيام ما يسمى (الثورة السورية)، فتحت العديد من المؤسسات الإعلامية الغربية الكبيرة أبوابها للمعارضين السوريين، ولقد تزاحم العديد من الصحفيين على إجراء اللقاءات والربورتاجات والبرامج المتعلقة بـ (الثورة السورية). ليتبيّن فيما بعد أنّ معظمَ هؤلاء الصحفيين هم مجرد عناصر استخباراتية، استطاعت أن تحقق أهدافاً متعددة دفعة واحدة:
-منع تحقيق التجربة الديمقراطية في سورية
-تخريب الدولة السورية ومؤسساتها
-تمزيق الوحدة الوطنية السورية
وما زالت الأحداث مستمرة، ولا ندري ماذا يخبّؤون في جعبتهم من مؤامرات خبيثة!
وبالرغم من أن تجربة العراق المؤلمة ما تزال ماثلة أمام أعيننا؛ إذ دفع الشعب العراقي العزيز والبطل الكثير من دماء أبنائه ومن أمواله ومقدراته في سبيل نيل حرية مزعومة وديمقراطية موهومة، يعلم الغرب نفسه أنها مجرد مصطلحات ومفاهيم لا مصداقية لها في الواقع. ونحن العربَ، لا نأبى التعلم من ماضينا أو من تجارب الآخرين فحسب، بل إننا غير مستعدين للتعلّم من تجاربنا الذاتية الحاضرة.
كما أن تركيا، التي كانت مسرحاً لنشاط المعارضين السوريين ووسائل الإعلام الغربية، وجدت نفسها أمام واقع جيوسياسي معقد؛ والسبب هو ثقتها بنوايا الغرب و انسياقها وراء مشاريعه. اعتقدت القيادة التركية خاطئةً أن الدول الغربية حليفة لتركيا، ولكن الواقع بيّن أن الغرب حاول استخدام تركيا كمطيّة لتنفيذ مشاريعه في المنطقة. و لم يتوقف الموضوع عند المسألة الكردية، بل حاولت الدول الغربية إثارة مشاريع أخرى على خلفية إثنية وعرقية:
1-المسألة الشركسية:
بدأ الحديث عن هذه المسألة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، والغاية هي إذكاء نيران حقد بين الروس والأتراك على خلفية أحداث تاريخية ميتة ومنسيّة. للأسف استجابت بعض الأقلام المأجورة لهذه الدعوات الخبيثة والمشبوهة وبدأت الترويج لهذه القضايا عبر وسائل الإعلام المختلفة.
2-البان تركيسم:
أما حركة البان تركيسم فهي حركة تعود إلى أواسط القرن التاسع عشر، كانت تقودها بعض الأنتلجنسيا الأذربيجانية والعثمانية، وتهدف إلى التوحيد الثقافي والسياسي للشعوب التركية. والشعوب التركية هي تجمُّع إثني-لُغوي، يتكلمون جميعهم لغات العائلة التركية ويشكلون حوالي 40 إثنيةً وعرقاً، ينتشر أعضاؤه في وسط وشرق وغرب وشمال آسيا، وبعض أجزاء أوروبا وشمال أفريقيا، يصل عددهم إلى حوالي 150 مليوناً. بالطبع سيتيح خلقُ حالة من التوتر في آسيا الوسطى للدول الغربية، عبر المؤسسات الدولية المختلفة، إيجاد موطِئ قدم لها بهدف التحكم في سياسات دول هذه المنطقة، التي تعاني من العديدَ من الأزمات الاقتصادية والسياسية أصلاً.
يبدو أنّ تركيا شعرت بالنّوايا الغربية الخبيثة تجاه المنطقة، كما أنها شعرت بأن تأييدها للموقف الغربي جرّ عليها الكثير من التبعات السلبية، لذلك نلاحظ أنها بدأت بالعديد من التغييرات في سياستها الخارجية. والحقيقة أنّ الفضل في إحداث هذه التغييرات يعود إلى روسيا؛ فلقد ساهمت روسيا في حل الكثير من المسائل التي تهم تركيا، كمسألة مرتفعات كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، مسألة التكامل ضمن فضاء الشعوب التركية وغيرها.
من المؤكد أن هذا السلوك التركي لم ولن يعجب الدول الغربية، لذلك نلاحظ أن جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس السابق دونالد ترامب، قال في مطلع هذا العام: (لابدّ من إعادة النظر في عضويّة تركيا في حلف الناتو في عام 2023 إذا تم إعادة انتخاب أردوغان). بالطبع هذه الدعوة مرتبطة، بشكل أساسي، بالشروط التي وضعتها تركيا أمام السويد وفنلندا للموافقة على انضمامهما إلى حلف الناتو.
والحقيقة أن هذه الدعوات لطرد تركيا من حلف الناتو ليست جديدة، فلقد دعا بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي إلى الأمر ذاته منذ سنوات، والسبب واضح وهو أنّ تركيا تحاول تحقيق الاستقلال في سياستها الخارجية ولا تريد الانسياق وراء المشاريع الغربية.
وكأنه على تركيا الخضوع لرغبات الدول الغربية حتى لو كان ذلك يشكل ضرراً لتركيا نفسها!
لذلك، فالنتيجة واضحة للجميع، لا يبحث الغرب عن علاقات شراكة أو صداقة على قاعدة المصالح المشتركة مع الدول الأخرى، بل يسعى إلى تحقيق مصالحه حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الخاصة لتلك الدول. لذلك على دول الشرق العربي، أو حتى الشرق كلّه، محاولة إيجاد منصّات وصيغ للحوار فيما بينها للمساهمة في حل مشاكل المنطقة بنفسها ودون تدخّل غربي؛ وتطبيق المبدأ المعمول فيه في أفريقيا (مشاكل أفريقيّة-حلول أفريقيّة) ليصبح (مشاكل شرقية-حلول شرقية)؛ فهذا سيجلب الخير والمنفعة لجميع شعوب المنطقة وسيساهم في تعزيز استقرارها ومنعتها.
= = = = =
*الأستاذ نضال محمد – كاتب صحفي و محلل سياسي
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي اس ام وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً