بقلم الدكتور يونس الديدي*
في كل عام، ومع اقتراب شهر رمضان، ينشغل الجميع بسباق المسلسلات الرمضانية، حتى أصبح هذا الارتباط جزءاً من الوعي الجمعي العربي. لم نعد نتساءل عن محتوى هذه الأعمال بقدر ما نتساءل: “أي مسلسل سيسيطر على الموسم؟” و” من هو النجم الأعلى أجراً هذا العام؟”.
لكن وسط هذا الصخب، يبرز سؤال جوهري: لماذا تحوّل رمضان من شهر التأمّل والقيم إلى سوق استهلاكي ضخم تسيطر عليه الإعلانات والمسلسلات؟ والأهم من ذلك، لماذا تغيب القضايا الكبرى عن الدراما الرمضانية، رغم أن المنطقة العربية تعيش أزماتٍ سياسيةً واجتماعية غير مسبوقة، من فلسطين وغزة إلى قضايا الحريات والعدالة؟
كيف بدأ كل شيء؟
المسلسلات الرمضانية لم تكن دائماً بهذا الطابع الاستهلاكي البحت. في عقود مضت، كانت الدراما العربية تتناول قضايا جوهرية تعكس واقع الشعوب العربية. في مصر، كانت هناك أعمال مثل (ليالي الحلمية) التي تناولت التحولات السياسية والاجتماعية، بينما قدّمت الدراما السورية أعمالًا مثل (نهاية رجل شجاع) التي تطرّقت إلى قضايا السلطة والفساد.
لكن منذ التسعينيات، ومع صعود الإعلام التجاري، تغيّرت المعادلة. لم تعد المسلسلات تُنتج وفق رؤية ثقافية أو فنية، بل وفق دراسات تسويقية تحدّد ما يجذب الجمهور أكثر. وهكذا، بدأنا نرى سيطرة الكوميديا الخفيفة، وقصص الإثارة والأكشن المكررة، بينما اختفت الدراما التي تطرح أسئلة حقيقية.
أزمة رؤية: دراما بلا قضية
إحدى المظاهر الواضحة لأزمة الدراما العربية اليوم هي غياب الأعمال التي تتناول القضايا المصيرية للأمة. أين المسلسلات التي تناقش القضية الفلسطينية بعمق؟ لماذا لا نجد أعمالاً تتحدث عن غزة، عن معاناة الشعوب تحت الاحتلال، عن النضال من أجل الحرية؟
في الماضي، كانت هناك أعمال تواكب الأحداث الكبرى، مثل مسلسل (التغريبة الفلسطينية) الذي وثّق معاناة الشعب الفلسطيني منذ النكبة. أما اليوم، فالقضية الفلسطينية تكاد تختفي من المشهد الدرامي العربي، وكأنها لم تعد جزءاً من الوجدان الجمعي.
الأمر لا يتعلق فقط بفلسطين، بل يمتد إلى كل القضايا الحساسة: لا مسلسلات تتحدث عن القمع السياسي، عن الفقر والتفاوت الاجتماعي، عن قضايا اللاجئين، عن الفساد والاستبداد. حتى حين تحاول بعض الأعمال تناول هذه المواضيع، فإنها تفعل ذلك بطريقة سطحية أو رمزية خوفاً من الاصطدام بالخطوط الحمراء.
الرقابة غير المعلنة: من يحدد ما نشاهده؟
غياب هذه القضايا عن الدراما الرمضانية ليس مصادفة. فمعظم المسلسلات اليوم تُنتج تحت إشراف شركات ضخمة مرتبطة بدوائر المال والإعلام، وهي جهات لا تريد محتوىً يثير الجدل أو يحرّك الوعي العام.
قبل أن يُكتب السيناريو، تتم مراجعة “قواعد اللعبة”، لضمان ألا يتجاوز العمل الحدود المسموح بها. يُسمح بالدراما الاجتماعية، لكن بشرط ألا تقترب من مواضيع حسّاسة. يُسمح بالكوميديا، لكن دون أن تتحول إلى نقد سياسي جاد. يُسمح بالأكشن، لكن دون أن يوجّه رسائل قد تزعج السلطات أو الشركات الممولة.
وبهذا الشكل، تتحول الدراما إلى أداة ترفيه خالية من الجوهر، مصممة فقط لجذب المشاهدين دون أن تثير أي تساؤلات.
الإعلانات.. اللاعب الخفي في المعادلة
لا يمكن فهم تحول الدراما الرمضانية إلى هذا الشكل دون الحديث عن الإعلانات. خلال رمضان، ترتفع أسعار الإعلانات إلى مستويات قياسية، وتتنافس الشركات على شراء أفضل الأوقات لبثِّ محتواها. وهذا يخلق معادلة خطيرة: المسلسل لا يُنتج لإيصال رسالة فنية أو ثقافية، بل يُصمّم لجذب أكبر عدد من المشاهدين، حتى يضمن المعلنون انتشار إعلاناتهم بأقصى درجة ممكنة.
هذا يفسّر سبب تكرار النمط نفسه من المسلسلات عاماً بعد عام. لماذا نجد دوماً نجم الأكشن الذي يحارب الأعداء، أو الكوميديا السطحية التي تعيد إنتاج نفسها، أو الدراما العائلية التي تدور حول قصص الخيانة والانتقام؟ لأن هذه الأنواع من المحتوى مضمونة النجاح تجارياً، وهي تحقق أعلى نسب مشاهدة، وبالتالي تجذب المزيد من الإعلانات.
من الدراما التأسيسية إلى الدراما الاستهلاكية
في الماضي، كانت الدراما العربية تؤدي دوراً تأسيسياً في تشكيل الوعي، وكانت هناك أعمال تحاول الدفاع عن القيم والمعاني الاجتماعية. أما اليوم، فقد تحولت إلى مجرد “محتوى ترفيهي”، بلا هدف أو رؤية.
حتى المسلسلات التي يُفترض أنها “جادّة”، غالباً ما تفتقد العمق. يتم التركيز على الجوانب البصرية، على الإنتاج الفخم والديكورات الفاخرة، بينما تغيب القصة الحقيقية، وتُستبدل برسائل استهلاكية فارغة.
هل يمكن استعادة الدراما الهادفة؟
السؤال الكبير الآن: هل يمكن للدراما الرمضانية أن تعود إلى دورها الحقيقي؟ هل يمكن أن نرى مسلسلات تتناول قضايا الأمة بجرأة وصدق؟ أم أنّ هيمنة المال والإعلانات والرقابة ستظل تحكم المشهد الفني؟
إعادة التوازن إلى المشهد الدرامي العربي تتطلّب تغييرات جذرية:
•دعم الإنتاج المستقل: يجب تشجيع الأعمال التي تُنتَج بعيداً عن حسابات السوق والإعلانات.
•تحرير الدراما من القيود السياسية: يجب منح المبدعين حرية تناول القضايا الكبرى دون خوف من الرقابة.
•تشجيع الأعمال التي تحمل رؤية حقيقية: بدلاً من المسلسلات التجارية السطحية، يجب الاستثمار في أعمال تطرح أسئلة جوهرية وتتناول الواقع العربي بعمق.
رمضان.. أي دراما نريد؟
رمضان ليس مجرد موسم للمسلسلات، لكنه تحوّل إلى ذلك بفعل هندسة ثقافية ممنهجة. اليوم، أصبح من الصعب تخيل رمضان من دون دراما، لكن السؤال الأهم هو: أي نوع من الدراما نريد أن نشاهد؟
هل نريد مسلسلات مصممة فقط لملء الفراغ بين الإعلانات؟ أم نريد دراما تروي قصصنا الحقيقية، تعكس همومنا، وتساهم في تشكيل وعينا؟
في النهاية، المسألة ليست مجرد “ترفيه”، بل هي جزء من معركة كبرى حول من يحدد ما نشاهده، وما يُسمح لنا بأن نفكر فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الدكتور يونس الديدي – كاتب صحفي، محاضر وأستاذ جامعي، باحث في الشؤون السياسية.
جميع الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي مركز جي إس إم وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً